الاقتصاد العربي مفكك وبحاجة إلى إصلاحات داخلية تقوي كل جزء منه، كما تعزز الترابط بين قطاعاته ومناطقه الجغرافية. أسباب التفكك اقتصادية ناتجة عن سوء التنوع وضعف الثقة بين أصحاب العرض والطلب في كل دولة وفيما بينها. كما يعود التفكك إلى الأوضاع السياسية والأمنية المتأزمة والمستمرة منذ عقود. وجود مناطق جغرافية واسعة تسودها الحروب والخلافات السياسية الحادة يمنع واقعياً قيام منطقة اقتصادية واحدة. تبقى الأولويات في المنطقة حتى اليوم سياسية عبر إيجاد حل نهائي للأزمة العراقية وللعلاقات بين الكويت والعراق، كما للمشكلة الفلسطينية التي استعصت على كل الرؤساء الأمريكيين وزعماء العالم. حجم الاقتصاد العربي نسبة للاقتصاد العالمي لا يتعدى 3%، أو ما يقارب 5 ،12% من حجم الاقتصاد الأمريكي الذي يحتوي على نفس عدد السكان.كما ان التجارة العربية الداخلية لا تتعدى 10% من حجم التجارة الدولية للدول العربية.
تدل هذه الأرقام على الثقل المتواضع جدا للاقتصاد العربي في العالم، مما يؤثر سلبا على دوره السياسي والاجتماعي. تدل هذه الأرقام أيضا على التفتت الاقتصادي للعالم العربي الذي يبقى في الواقع مؤلفاً من وحدات مستقلة هامشية أو ضعيفة.
أمريكا لم تكن لتحارب العراق سياسياً وإعلامياً واقتصادياً وعسكرياً لو وجدت منطقة اقتصادية عربية واحدة، أي وحدة على الطريقة الأوروبية أو ما يشابهها. تفتت العالم العربي الاقتصادي اليوم يسمح لأمريكا، كما سمح لغيرها في الماضي بالاستفادة من ضعفه لتحقيق أهداف مؤذية على المدى البعيد. يشكل العراق الحلقة الأضعف في «محور الشر»، كما وصفه الرئيس بوش في خطابه السنة الماضية إلى الأمة، الذي يضم إليه إيران وكوريا الشمالية. ما رفضته أمريكا بالنسبة للعراق تقبله على مضض بالنسبة لكوريا وربما أيضا بالنسبة لإيران. فالعراق تعب وضعف كثيرا خلال الحصار، لذا يعتبر الانتصار عليه وعلى اقتصاده سهلاً نسبياً في نظر الأمريكيين.
فالحرب ضد العراق ربما تشكل أيضا الخطوة الأولى في المعركة ضد العضوين الآخرين في المحور. كما أن الحرب ضد كوريا الشمالية ربما تؤدي إلى مواجهة نووية تدمر كوريا الجنوبية وبقية دول المنطقة وتلحق الأذى بالاقتصاد الأمريكي نفسه.
أما الحرب ضد ايران، فيمكن أن تؤجل لأن ايران استعادت أنفاسها بعد ثورتها وحربها وها هي تخاطب العالم الغربي بلهجة جديدة تساهم في بناء علاقات دائمة. وحده العراق لم يحسن معالجة أوضاعه الداخلية ولم يحسن مخاطبة العالم الغربي، أو ربما لم يسمح له بذلك.
لم تكن الحرب لتقع لولا وجود قوة اقتصادية كبرى واحدة تتحكم عملياً بالعلاقات الدولية. أية دولة تملك قوة بهذا الحجم ستتصرف كما تفعل أمريكا اليوم. فالداء الذي نتكلم عنه ليس الداء الأمريكي وانما داء القوة. فالولايات المتحدة ليست متفوقة فقط في الاقتصاد، وإنما أيضا في العلوم والطب والاجتماع والسياسة والعسكر وغيره وهذا لم يحصل في التاريخ أو على الأقل منذ قرون.
ففي المؤشرات الاقتصادية للسنة الماضية، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي 67 ،9 ألف مليار يورو مقارنة ب 05 ،4 لليابان، و11 ،2 لألمانيا، و52 ،1 لبريطانيا، و51 ،1 لفرنسا.
هذا يعني أن القوة الاقتصادية الأمريكية تفوق مجموع قوة الدول الأربعة، مما يسمح لها باستعمالها بحرية كبيرة.
أما ردة الفعل الشعبية العربية، فيبدو أنها سلبية وذلك عبر استطلاعات علمية أجرتها مؤسسات أمريكية تظهر أن فقط 4% من السعوديين و6% من المغربيين والأردنيين و13% من المصريين و32% من اللبنانيين يظهرون رأياً إيجابياً تجاه أمريكا..
أهداف أمريكا المعلنة من الحرب ضد العراق هي تغيير الحكم وتدمير أسلحة الدمار الشامل ثم بناء الاقتصاد. أكثرية كبيرة من الذين شملهم الاستطلاع متشائمة بشأن نتائج الحرب وتعتقد انها لن تساهم في بناء الديمقراطية المنتظرة، بل ستضر بإمكانية تحقيق سلام شامل في المنطقة.
بالرغم من غياب الإحصائيات الدورية الكاملة، يمكننا أخذ فكرة لا بأس بها عن الواقع الاقتصادي العراقي الدقيق. إن نصيب الفرد العراقي من الناتج الزراعي لسنة 1999 قارب 1203 دولار، أي 4 أضعاف المعدل العربي، وهو الأعلى في العالم العربي. من الضروري أن نذكر أن نصيب العراقي زاد من 821 دولار سنة 1990 إلى ما هو عليه في آخر القرن بالرغم من الأوضاع الصعبة. تعود النتيجة الزراعية الجيدة ومساهمتها بثلث الناتج المحلي الإجمالي إلى نوعية التربة وتوافر اليد العاملة النشطة والمياه الكافية والى ضعف القطاعات الأخرى. بلغت مثلا نسبة مساهمة القيمة المضافة للقطاع الصناعي العراقي في الناتج المحلي الإجمالي 4 ،12% لسنة 1999، وهي متواضعة وتعود إلى صعوبة استيراد التكنولوجيا بسبب العقوبات. بلغت إنتاجية العمالة في القطاع الصناعي في سنة 1999 نصف ما كانت عليه في سنة 1990، وأصبحت من الأدنى في العالم العربي. وكان يشكل استهلاك الطاقة الكهربائية في سنة 1990 في العراق حوالي 14% من المجموع العربي، فانحدر إلى 9% في سنة 1999 للأسباب نفسها. أما الكثافة الهاتفية الثابتة «خط لكل 100 مواطن» لسنة 1999م فبلغت معدل 7 في الدول العربية، و9 ،4 في العراق مقارنة ب 2 ،33 في الإمارات و3 ،12 في الأردن و10 في سوريا و19 في لبنان. تؤكد كل هذه الأرقام على ابتعاد العراق عن العولمة وعن الاقتصاد الجديد المرتكز على الاتصالات والتكنولوجيا.
ماذا يعني انتهاء الأزمة العراقية وكيف ستؤثر على واقع ومستقبل المنطقة. من الصعب تنبؤ مدة الحرب وحجمها وتكلفتها، إذ يتوقف هذا على حسن المقاومة ودقة الهجوم. في كل حال، الحرب تبقى حرباً ولا بد من أن تكون نتائجها مؤلمة في ذاكرة العراقيين وأجيالهم المستقبلية . انتهاء الأزمة العراقية ربما يؤسس لقيام منطقة عربية بدءاً من الخليج لتشمل كل الدول العربية.
ان فتح الحدود في وجه انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأشخاص يساهم في خلق نواة منطقة عربية اقتصادية تساهم في زيادة الدور الاقتصادي العربي وفي تعزيز التبادل التجاري فيما بين الدول. تكلفة بناء العراق بعد الحرب ستكون كبيرة اذ إن مقومات الاقتصاد شاخت، فيحتاج البلد الى اعادة إعمار بنيته التحتية وتحديث ركائز اقتصاده الإنتاجي. فالعراق يحتوي على الثروات الكبيرة المتنوعة الكفيلة بتسهيل عملية الإعمار والبناء. تكمن المشكلة فقط في حسن صرف هذه الأموال، مما يسمح للاقتصاد بالنهوض في أسرع وقت وأقل كلفة. فالعراق بعد أزمته سيكون دولة كبرى تساهم في خلق اقتصاد عربي نشط وواسع. لا يمكن للعالم العربي أن يستمر في وضعه الاقتصادي الحالي الذي يهمشه دوليا في كل الميادين.
وجود عراق مستقل بعد الأزمة سيساهم أيضا في خلق ملايين فرص العمل للمجتمع العربي، أي تماماً كما كانت المملكة العربية السعودية في السبعينيات والثمانينيات. سيشكل اقتصاد العراق قلب الاقتصاد العربي الحديث، بحيث ينفق موارده الكبيرة ليس على التسلح بل على البناء والانخراط في الاقتصاد الدولي الجديد. ان نهوض اقتصاد عراقي حديث يعتمد على احتساب وإصدار نشرات احصائية كاملة تسمح للعراقيين أنفسهم وللمراقبين بمتابعة التطورات الاقتصادية. يشكل إدخال العراق الى الاقتصاد الجديد الهدف الأول لأية حكومة عراقية. فالمطلوب هو تحديث القوانين والمؤسسات بحيث يتطور القطاع الخاص وينمو، فيستورد أفضل وأحدث التكنولوجيا للإنتاج ثم التصدير..
فلا بد لصندوق النقد وللبنك الدولي من أن يساهما أيضا في نهضة الاقتصاد بعد فترة الغياب القسرية الطويلة. سيشكل الاقتصاد العراقي الجديد اليوم ورشة العمل الاقتصادية الدولية الكبرى، تماماً كما كان وضع الدول الأوروبية الاشتراكية المنتقلة الى الرأسمالية في بداية التسعينيات.
نجاح العراق يعتمد، كما كان الأمر بالنسبة للدول المنتقلة، على حسن إدارة العراقيين لدولتهم وعلى مساعدة المؤسسات الدولية والدول المهتمة ببناء الاقتصاد وتحديثه.
www.louishobeika.com
|