Thursday 27th march,2003 11137العدد الخميس 24 ,محرم 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

العرب.. ذاكرة مخرومة العرب.. ذاكرة مخرومة
عبدالله الماجد

قال أحد العلماء الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر، وهو العالم «ليبيري» «لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا عدة قرون».
وهو قول ليس فيه من المبالغة أي شيء، بل هو حقيقة تاريخية مجردة من العاطفة، واعادة طرحها هنا ليس مدفوعاً بطغيان العاطفة، أو بكاء على أطلال ذلك المجد الغابر، فما قاله «ليبيري» ذكره على نحو آخر أحد معاصريه، وهو العلامة «غوستاف لوبون» المفتون والعاشق لحضارة العرب، حيث ذكر أنه كان للعرب في «إسبانيا» وحدها «سبعون مكتبة عامة» وكان في مكتبة الخليفة الحاكم بقرطبة «ستمائة ألف كتاب» فيها «أربعة وأربعون مجلداً من الفهارس».
وهو ما عجز عنه بعد أربعمائة سنة أحد حكام فرنسا، أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية، أكثر من تسعمائة مجلد، ثلثها في علم اللاهوت.
إنني أغمض عيني، وأترك لعقلي أن يجول ويتذكر، هل يوجد على وجه هذه الأرض الآن، الموشاة بكل دواعي ومحفزات البذخ، حاكم لديه مثل هذه المكتبة، إنني أترك الاجابة لأبنائنا طلاب المدارس الثانوية، الذين يدرسون تاريخ العرب وحضارة العرب، للاجابة على أسئلة الامتحانات في آخر العام فقط، ثم ينسون كل ذلك، كما ينسى ذلك قادة هذه الأمة العربية.
لقد أردت من هذه المقدمة أن أصل إلى حقيقة مرة، وهي أننا أمة لها «ذاكرة مخرومة» لا تحتفظ من أحداثها إلا بأقل من عشر سنين، ثم هي لا تأخذ العبرة من التاريخ، ألم يكن أحد أهداف كتابة التاريخ هو العبرة، على نحو ما فعل علامتنا الخالد «ابن خلدون» الذي عاش في مجد الأندلس العربية، حيث جعل عنوان تاريخه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر» وياله من عنوان مؤثر وموحٍ - على عكس ما يبدو من ظاهره - حيث نجد أن التاريخ عِبر والديوان هو ذاكرة الأمة، والمبتدأ هو مبتدأ الأمر مبتدأ التاريخ، والخبر هو الإعلام بهذا التاريخ والباقي لا يحتاج إلى تفسير.
ولكي أدلل على هذه «الذاكرة المخرومة» فما من أحد يتذكر ما آل إليه مصير ذاكرة العرب الحضارية، المتمثلة في هذا المنتج العلمي الذي تكونه مئات الألوف من هذه الكتب، إن الكتب هي ذاكرة الأمة العلمية والحضارية، إنها نتاج التجريب في مجال العلم والعقل.
مرة أخرى يذكر «غوستاف لوبون» أنه في حمأة محاكم التفتيش، التي رافقت حملة إجلاء العرب من إسبانيا سنة 1610م قام رئيس الأساقفة الإسباني «أكزيمنيس» باحراق ما قدر على جمعه من مخطوطات العرب «ثمانين ألف كتاب» وهذا الفعل الجائر، الذي يمكن أن يوصف بأنه ارهاب سعى إلى تدمير حضارة الانسان يُذكرنا على نحو آخر، بما فعله المغول من قبل أثناء اجتياحهم المشرق العربي، عبر الفرات، حيث عاثوا فساداً بالمكتبات، وألقوا بما تحويه خزائن الكتب في النهر، لتعبر عليها جيوشهم.
ولم يكن احراق الكتب، هو المستهدف، وإنما بُدئ بقتل تلك العقول، التي أنتجت تلك الكتب، ففي ذلك الوقت «1610م» حينما بدئ بإجلاء العرب عن إسبانيا، خسرت إسبانيا أكثر من ثلاثة ملايين من العرب، الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية - على نحو ما يذكر «لوبون» الذي يُفصل القول في ذلك علي هذا النحو:
«أمرت الحكومة الإسبانية «1610م» باجلاء العرب عن إسبانية، فقتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك الراهب «بليدا» ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قتل مئة ألف مهاجر، من قافلة واحدة كانت مؤلفة من 140 ألف مهاجر عربي، حينما كانت متجهة إلى أفريقية «حضارة العرب ص270».
يالهول ما استهدفت به هذه الامة، وهي الأمة التي كانت - وما زالت - يتسع صدرها للتسامح، لم تكن أمة تدين بالعنصرية، فدينها يرفض ذلك ولا يحض عليه، ويالهول ما واجهته من جور الأمم التي لا تؤمن بهذا المبدأ، ليس المقصود من استرجاع هذه الذاكرة، تنشيط ذاكرة الكراهية لهذه الأمم، وإنما تنشيط ذاكرة الوعي التاريخي لفهم الحاضر الذي يلفنا ويحيطنا بدائرة، تُذكر بما أصاب أسلافنا في أمسهم البعيد، يجب إعادة فتح كتب التاريخ، وما تحويه كتب مقررات الدراسة التي يدرسها أبناؤنا، ليس لمراجعة مواد الامتحانات والاجابة على الأسئلة، ولكن وعي الماضي لمعرفة أسرار الحاضر، بدءاً من تاريخ الحروب الصليبية، وهجوم التتار، الذي كان مجيئهم سبباً لسبات وتجزئ هذه الأمة، وبداية لاضمحلال وتدهور مشروع الأمة العربية الحضاري، وفقدان الذاكرة، والخور الذي أصاب روح التحدي في فكر هذه الأمة، حتى أصبح هذا المشروع مجرد نص في كتب التاريخ، نص صامت يُقرأ، ولا يتحرك.
هل أحاول أن أسد ثقباً في الذاكرة المخرومة. إنني أتوجه إلى الطلاب فالكبار يعرفون ذلك وقد قرأوه لكنه تسرب من الذاكرة، بل أذكره لعدد قليل من الكتبة والصحفيين، الذين يهولون من عظمة المعتدي المتربص لهذه الأمة، ويروجون لدواعي الهزيمة ويسلبون من هذه الأمة تاريخها وحقها في استخدام قواها الكامنة في ذاتها. مرة واحدة في تاريخ هذه الأمة الحديث جرَّبت استخدام قوتها الذاتية، وحيث كانت آلة الإعلام الجبارة تُضخم من قوة العدو الصهيوني، التي انهارت أمام اتحاد القوة العربية، وأثبتت هذه الأمة أنها قادرة على الدفاع عن نفسها، وللأسف فإن الانتصار الوحيد في تاريخ العرب كان في عام 1973م. الآن المعتدي الجديد يستمد قوته من أرضنا من كل امكانياتنا التي نقدمها له بدون ثمن، بل يُسخرها في الاعتداء علينا، لأنه لا يريد لهذه الأمة أن تتطور وتبعث مجدها من جديد لكنها تنسى قوتها الذاتية الكامنة في مناحي حياتها، ففي حين نمنحهم فضاءنا وأرضنا، ها هي تركيا - عدوة الأمس وحليفة اليوم للغرب - تستعمل حقها، وتبحث عن اقتسام الغنيمة، بينما الألوف من الجنود الغازية، تنتظر في ناقلاتها في البحر حتى يؤذن لها، ولكن بشروط، فليس هناك حقوق مستباحة بلا ثمن.
أيها الطلاب، يا عُدة المستقبل، وحتى لا تكون لكم ذاكرة مخرومة، أذكركم بقول أحد الكتَّاب الإسبان في أواخر القرن التاسع عشر واسمه «كنبومانس» بعد أن رحل العرب من إسبانيا، يقول «أصبحت خالية من أية مدرس لتعليم الفيزياء، والرياضيات والطبيعيات، وصرت لا ترى فيها كلها حتى سنة 1776م كيماوياً قادراً على وضع أبسط التراكيب الكيماوية، ولا شخصاً قادراً على انشاء مركب أو سفينة شراعية» أتعرفون كيف حقق أسلافكم هذا المجد، الذي طال فرنسا وايطاليا وأحياها من غفوتها، حيث ظل العقل العربي من خلال تجاربه ومؤلفاته، وخصوصاً العلمية مصدراً وحيداً للتدريس في جامعات أوروبا طيلة ستة قرون، يقول عاشق الحضارة العربية «لوبون» إن العرب حيث بهرتهم الحضارة الإغريقية القديمة، بعد أن خرجوا من صحارى جزيرته، ويمثل هذا الانبهار «جدوا من فورهم ليكونوا على مستواها، فأظهروا في دراسة العالم الجديد في أعينهم من الحماسة كالاستعداد الذي أبدوه لفتحه» فإذا عادت إلى أمتكم ذاكرتها هل يعود إليها عزمها؟!
إذا كانت هذه هي ذاكرة هذا التاريخ البعيد، فإن ذاكرة تاريخ الأمس القريب، لا تزال حية، لم تجف أوراقها، فهل من مُتذكر ومُذكر بعيد قراءتها، إن المضحك المبكي، أن هذه الأمة، يوم أن كان لا حول ولا قوة لها - وهذا عذرها - مع مطلع القرن الماضي، ظلت تتفرج، والعالم من حولها يُعيد تقسيم خارطتها السياسية، ويجتهد في تجزئتها، وتقسيم مقدراتها كغنائم مستباحة، بل شاركوا في هذه اللعبة، تحت طائلة وعود كاذبة، وكانوا كمثل ذلك الراعي الذي امن للذئب في حماية غنمه، وفي أقرب فرصة سانحة افترس الذئب معظم غنمه.
القصة التي لا تزال حية، طرية، مثل جريد النخيل في كل الواحات العربية، وفي وجدان المعمرين من أبناء هذه الأمة، أثناء الحرب العالمية الأولى، وعشية قيامها، تألب التاج البريطاني، ضد الرايخ الألماني، الذي تحالفت معه تركيا، صاحبة الخلافة المترنحة - في ذلك الوقت - ليس حباً في ألمانيا، وإنما كرهاً في صاحبة التاج البريطانية، التي فرضت حمايتها على بلاد تعتبرها تركيا ضمن ولاياتها، وهكذا تم نسج خيوط اللعبة السياسية، أعطى البريطانيون لهذه الولايات العربية «العسل واللبن» بيد، وأخفوا الخرائط بيد أخرى، وقطعوا لهم الوعود، باعطائهم حق بلدانهم في التحرر وتقرير حق مصيرهم، وكان يعمل في البلاد العربية جيل لامع من السياسيين البريطانيين المدربين، الذين ليس لهم مثيل الآن على الساحة السياسية من أمثال «بيرسي كوكس» و«لورنس» والكابتن «شيكسبير» وفيلبي» و«جرترودبل» و«غلوب» و«ديكسون» وهؤلاء كانوا بدواً كعرب الصحراء، في كل شيء في لهجتهم وفي معاشهم، اندمجوا في غمار بدو الصحراء، وأصبحوا نسيجاً إنسانياً منهم، كما يبدو، ومنهم من عشق العرب عشقاً حقيقياً، كديكسون وقيلبي، وشيكسبير حيث تعرفوا عن قرب، على الطبيعة العربية، وما تنطوي عليه من وشائج انسانية، فعشقوا العرب، وآمنوا بحقوقهم.
وها هو واحد من أبرزهم، هو «سانت جون فيلبي» يستقيل من كل مناصبه في حكومة بلاده «ويعلن في حديث صحفي، قُبيل وفاته في بداية عام 1961م»:
«لقد مللت من النكث بالعهود التي قطعت للعرب، وشعرت أن سياسات حكومتي أخذت تتجه اتجاهاً مضاداً لهذه العهود فرأيت أن ليس باستطاعتي أن أظل مرتبطاً بهذه السياسات التي لا أتفق معها».
ها هي الدولة، التي ورثتها دولة من وراء البحار، كانت مستعمرة لها، كانت تحارب «تركيا» مستخدمة عفوية العرب، فتضحك عليهم بأن تمنحهم استقلالهم لكنها لا تفعل ذلك، فبدلاً من أن تمنحهم ذلك تستعمر أجزاء من بلادهم، وتأتي بهذا الغاصب وتزرعه في كبدهم «كالفيروس» الذي يستوطن الكبد، ها هي تركيا اليوم تُستخدم كذريعة ومنطلق لتفتيت أوصال هذا الجسد، لا حقيقة في السياسة، المعاني مقلوبة، وعلى حد تعبير أقدم الفلاسفة «أرسطو» «السياسة عمل لا أخلاقي» بدلاً من أن يسألوا أنفسهم في خبث «لماذا يكرهوننا» نسألهم «ماذا يريدون منا» ونحن نعرف ماذا يريدون.
المهم أن لا ننسى وأن نعي الدرس، وأن نقبل بالتحدي، كمقابل لوجود هذه الأمة، وأن نقول لهم:« ديموقراطية الشعوب ورخاء الشعوب، لا تأتي من فوهة المواقع، ولا على رؤوس الصواريخ، ومن قاذفات اللهب ودمار الانسان».
* سؤال للطلاب في المقرر الدراسي
- كم تبعد المسافة بين «العراق» و«فلسطين» التي يحتلها «الكيان الصهيوني؟!
- 150 كيلو متر.
ستتقلص المسافة إلى أقل من 150 كيلو متر.
- لجأ أسلوب هذا المقال إلى أسلوب الخطابة المباشر لكي يُحدث «طنيناً» في الذاكرة المخرومة.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved