للجهل سراديب، كما أن للعلم أبواباً. والخروج من سراديب الجهل لا يضمن بالضرورة الدخول عبر أبواب العلم.. والدليل على ذلك أننا لو تمعنا لوجدنا حوالينا العديد ممن خرج من الجهل غير أنه لم يدخل العلم.. بل يكفينا إقرارنا أنفسنا بأن «محو الأمية» شرط من شروط التأهيل لتحصيل العلم. وإن يكن للعلم منطق يتوجب اكتسابه فللجهل «منطقة» يستلزم عبورها. بمعنى أن النجاح في تحصيل منطقية العلم مناط بالنجاح أولاً في العبور الآمن والشامل من كافة أرجاء منطقة الجهل وملحقاتها، وعلى ذلك فالتعليم يُفترض أن يتألف من مرحلتين أساسيتين.. أولاهما مرحلة خروج والأخرى مرحلة ولوج.. خروج من أتون متاهات الجهل بجواز يؤهِّل ويخوِّل صاحبه كل حقوق الدخول إلى مملكة التعليم.
جدير بالذكر أن النجاح في عبور منطقة الجهل مثلها مثل التعليم تحظى بنهج ومناهج وطرق وطرائق ومحفزات ومعوقات ومدخلات ومخرجات مستقلة بذاتها من ناحية ومرتبطة بنظيرها من عناصر ومقومات التعليم من ناحية أخرى. فهي مستقلة بذاتها من حيث كونها تتمحور حول منطقة لها حق الأولوية، ومرتبطة بعناصر التعليم بسبب أن العملية التعليمية هي في الأساس عملية ترويض واستئناس وأنسنة وما هو كذلك فسمته الاستمرارية وحقه التغذية الراجعة المستمرة. ومع ذلك يتوجب القول هنا بأهمية الحذر من اختلاط حابل مدخلات ومخرجات عبور منطقة الجهل بنابل نظيرها من مدخلات ومخرجات اكتساب العلم، ومتى حدث ذلك كانت النتائج جد وخيمة وذلك لأن الغلبة هنا دائماً ما تكون من نصيب منطقة «الجهل» وما ذلك إلا لكون الجهل هو الأكثر رسوخا.. والأغزر تأصلا.. والأقدم توجدا في كيان الإنسان.
ختاماً أعيد ما سبق بصياغة مختزلة: فعبور منطقة الجهل ليس بالضرورة ضماناً للنجاح في دخول منطقة العلم فضلا عن اكتسابه بنجاح.. فهناك من لا ينجح في عبور منطقة الجهل هذه، كما أن هناك من ينجح في الخروج منها غير أنه يتوقف على أعتاب بوابة العلم، وهنا يقطن منزلة ليس لها في قاموسنا التعليمي صفة أو سمة أو اسم أو عنوان. والتعليم في الأساس عملية إنقاذ من مجاهل الجهل غير أنها في مثل المثالين السابقين تصبح عملية «مبتورة».. تماماً مثلها مثل أية عملية إنقاذ صحي لا تبلغ بالمصاب إلا منتصف المسافة بين موقع الحادث وموقع المستشفى.. فهي هنا بالأحرى نصف عملية إنقاذ.. وغني عن القول إن فشل مدخلات عملية الإنقاذ هذه هو السبب الجوهري في فشل مخرجاتها، الأمر الذي يلزم بالنظر في طبيعة العلاقة بين النجاح في الخروج من الجهل والنجاح في الدخول إلى منطقة العلم وتحصيله بكل نجاح.
|