منحت جائزة نوبل للاقتصاد لهذه السنة لأمريكيين هما الاقتصادي فرنون سميث Smith لإدخاله الاختبارات إلى العلوم الاقتصادية وعالم النفس دانييل كانمان Kahneman لإدخاله علم النفس إلى الاقتصاد.. قال المؤلف النمساوي الكبير هايك Hayek :إن الاقتصادي الذي لا يتقن العلوم الاقتصادية، هو ليس بالاقتصادي الجيد.
يشير هايك إلى ترابط العلوم الاقتصادية بالأخرى الاجتماعية والسياسية واليوم النفسية، ومما يدفع بالاقتصاد إلى الإلمام قدر الإمكان بهذه العلوم المكملة. أرادت لجنة نوبل تكريم منهجين جديدين في العلوم الاقتصادية سيؤثران كثيرا على تدريس الاقتصادي وممارسته في السنوات المقبلة. فالبروفسور سميث عبر ال 200 مقال العلمي وأكثر، حول العلوم الاقتصادية من نظرية إلى مخبرية وبالتالي ساهم بطريقة مباشرة في تأسيس ما يعرف بعمليات المزاد العلني auctions.
كما فسح المجال عبر مختبره المتطور لدرس كيفية تقلب الاقتصاد، وأسبابه وخاصة أسواقه المالية. ولد سميث في عائلة أمريكية ذات ميول اشتراكية، لذا كانت أولى أهدافه التوصل إلى برهان مخبري حاسم يؤكد أن الاقتصاد الحر غير فاعل. ولكن الدروس المخبرية أكدت له عكس ذلك، أي أن اقتصاد السوق هو فاعل ويؤدي إلى أفضل النتائج.
أما البروفسور كانمان، فأدخل نهجاً جديداً إلى العلوم الاقتصادية قلب معه المفاهيم والنظريات رأساً على عقب. فالعلوم الاقتصادية الكلاسيكية، أي التي تدرس في كل الجامعات، ترتكز على أن الإنسان عاقل وراشد ويجند كل قواه للحصول دائماً على الأفضل. فانطلق كانمان من فرضية تقول ان الإنسان ليس دائماً عاقلا، بل يمكن أن يتصرف بعفوية معينة تحرك شعوره وبالتالي خياراته الاقتصادية. من هنا تأثير نفسية الإنسان في تصرفه الاقتصادي، الذي يمكن أن يعطي نتائج مختلفة تماماً عن النظريات الكلاسيكية.
إن إعطاء جائزة المليون دولار لهذين الكبيرين يساهم في دفع البحث الاقتصادي في اتجاهات جديدة مختلفة عما قام به آلاف الاقتصاديين منذ عقود. أهمية إعطاء نوبل للأستاذين المذكورين تعود إلى فشل العلوم الاقتصادية الكلاسيكية في تفسير صعود الأسواق خلال التسعينات وسقوطها فيما بعد، التي لا يمكن أن تعود إلى تصرفات راشدة من قبل المستثمرين. فها هي النظريات الجديدة تربط التقلبات المالية الخطيرة بانفعالات المستثمرين وتأثرهم بأمور نفسية داخلية وخارجية تحرك عواطفهم، وبالتالي بيعهم أو شراءهم للأسهم والأدوات المالية والاقتصادية.
فالأسواق هي معقدة أكثر بكثير مما اعتقد مؤسس العلوم الاقتصادية أدام سميث، سنة 1776، الذي قال ان «اليد الخفية» كفيلة بإيصال الأسواق دائماً إلى النتيجة الفضلى.
والحقيقة أن النتيجة التي وصلت إليها الأسواق منذ بداية التسعينات لم تكن أبدا الفضلى بل منحت أرباحاً مجانية هائلة لمغامرين أذكياء استفادوا منها كما حققت خسائر ضخمة لآخرين وضعوا ثقتهم بها واحترقوا. تدل تجارب السنوات الأخيرة على انه من الخطر ترك الأسواق تعمل دون حسيب أو رقيب، بل يجب وضع نوع من الرقابة التي تمنع تدهور الأسواق أو صعودها سريعاً. ولكن من الخطر أيضا وضع تشريعات متسرعة ودائمة مرتكزة فقط على حقبة ماضية وان كانت مهمة. يكمن الخطر في إمكانية تقييدها لحرية الأسواق، مما يمنع نموها الصحي على المدى المتوسط والطويل. ان القيود الدائمة المقبولة والمطلوبة هي نوع من الرقابة العلمية العامة على الأسواق التي تخفف من احتمالات التقلبات السريعة المفاجئة.
يقول الاقتصادي ريتشارد تايلر Thaler :إن إدخال علم النفس إلى الاقتصاد لم يكن ليحصل لولا أعمال البروفسور كانمان. وأية قراءة لأعمال الأخير تدفع المراقب الموضوعي إلى الوصول إلى النتيجة نفسها. أما أعمال البروفسور سميث، عبر عقود من العمل والبحث، فارتكزت على تعاونه مع زملائه وطلابه للقيام بتجارب مرتبطة بتصرفات المستثمرين وبالتالي تواصلت أعماله عن بعد مع البحوث التي قام بها شريكه في الجائزة. ولا ننكر ان هنالك اقتصاديين بالمستوى نفسه والكفاءة، وكان من الممكن أن يحوزوا على الجائزة كروبرت شيلر ولاري سامرز وأندري شلايفر وغيرهم. فعملية الاختيار تبقى صعبة، وتقوم بها أصلا لجنة الجائزة المرتبطة بالمصرف المركزي السويدي. نذكر ان اللجنة تحصل كل سنة على حوالي مئة ترشيحات مختلفة تقدم من قبل 250 أستاذاً تختارهم هي من مختلف أنحاء العالم. ويبدأ الاختيار بتحديد القسم الذي ستمنح الجائزة من ضمنه «مثلا علوم مالية أو نقدية أو غيرها»، ثم تقوم اللجنة باختيار شخص أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر لتقاسم الجائزة القائمة.
قبل فرنون سميث وكانمان، كانت العلوم الاقتصادية تقف على ركيزتين هما النظري والعملي، ولم يكن العلم المخبري جزءا منها. فمن النتائج التي توصل إليها كانمان مثلا أنّ المستثمرين لا يعترفون بسرعة بخسارتهم في الأسواق ولا يتحركون في وجهها. فإذا اشترى مثلا مستثمر سهما بـ50 دولاراً أمريكياً وتحسن السعر إلى 70 أي بقي أعلى ما يجب أن يكون عليه في نظر المستثمر، فالأرجح انه سيبيعه.
أما إذا اشترى سهما ب 90 دولاراً وانخفض إلى 70، فمن الأرجح انه لن يبيعه حتى لو أعتقد ان السعر ما زال مرتفعاً. تصرفات المستثمرين بهذه الطريقة تفسر إلى حد ما التقلبات الحادة التي حصلت مؤخرا في الأسواق المالية.
يقول سميث، من ناحية أخرى مكملة: ان تصرفات الإنسان هي نتيجة للمناخ العام وللمؤسسات التي يعمل من ضمنها التي تحرك تصرفاته. فالمناخ العام يضم الموارد البشرية والمادية المتوافرة، أما المؤسسات فتضم القواعد والأعراف الموجودة كقوانين المنافسة. فالخيار الاقتصادي يختلف تبعاً للمناخ والمؤسسات المتوافرة، وبالتالي لا يمكن وصفه بالمنطقي أو غير المنطقي. فإذا تغير المناخ أو تطورت المؤسسات، يتغير القرار الاقتصادي. المقصود هو عدم وجود نتيجة اقتصادية واحدة في كل الظروف والأوقات، كما تمنى أدام سميث منذ أكثر من قرنين من الزمن.
للتجارب المخبرية في الاقتصاد فوائد كبيرة، اذ تؤكد أو تنفي صحة نظريات اقتصادية وتعلل الأسباب. كما تقارن بين نظريات منافسة أو بديلة لاعتماد الفضلى. فكيف يتم مثلا عمليا الوصول إلى سعر واحد للسلعة أو الخدمة؟.
تقول النظريات انه لا بد للعارضين وأصحاب الطلب من أن يتوصلوا، عبر قنوات السوق الخفية، إلى الاتفاق على سعر واحد يؤمن تبادل كمية معينة من السلعة أو الخدمة.
ولكن لا أحد يدري كيف تتم هذه العملية على الأرض، من هنا أهمية الاختبارات العلمية وهكذا يجلس العارضون والطالبون في مختبر واحد وجهاً لوجه ويبدأون، عبر حواسب حديثة ومجهزة، بتقديم عروض البيع والطلب للوصول إلى اتفاق.
تعدّ هذه الاختبارات ذات فائدة كبرى للباحثين ولأساتذة العلوم الاقتصادية، اذ تسمح لهم بفهم العوائق التي تعترض أو المراحل التي تسبق الوصول إلى النتيجة. لذا أقام فرنون سميث ورفاقه وطلابه في جامعة جورج مايسون في فرجينيا اختبارات كثيرة لفهم عمليات المزاد العلني وتوصلوا إلى نتائج قيمة مرتبطة بطرق إجراء المناقصات والمزايدات في الكهرباء مثلا وفعاليتها.
الفائدة للطلاب من هذه الاختبارات هو فهم العلوم الاقتصادية المعقدة بسرعة أكبر، وفهم نتائجها والعوامل التي تؤثر فيها. أهمية الاختبارات للمسؤولين الاقتصاديين هي إمكانية تجربة سياسات وتقييم نتائجها قبل اعتمادها.
وهكذا يمكن لمقرري السياسات الاقتصادية تجنب الأسوأ واعتماد السياسات الصحيحة والمناسبة، المجربة مخبرياً، لمعالجة أوضاع معينة.
كما يمكن للمهتمين تنبؤ نتائج سياسات قطاعية أو عامة أو تقييم مبيعات شركة في السوق عبر تقدير الطلب والإنتاج وبالتالي السعر والدخل. ان إدخال التجارب المخبرية والعلوم النفسية إلى الاقتصاد أصبح ضرورياً ومطلوباً، ولا يمكن لأية جامعة معاصرة متطورة أن تتجاهلها بعد اليوم.
|