لقد عرفنا أن الصحافة التركية والهاشمية لم يطل عمرها لتنتج أدباً نقدياً، وكان ينقصها اللسان العربي، وفي العهدين، الهاشمي والسعودي تحولت كلية الى اللغة العربية، وصار الكتاب يساهمون فيها بالنصيب الذي يستطيعون القيام به من أي جهة في المملكة. وقد ذكرنا دور الثقافة المصرية على الطرف الغربي من الجزيرة العربية بحكم الجوار وبالتالي سهولة وصول المطبوعة، وازداد شوق المثقف السعودي الى ما ينشر فيها، خاصة بعد التوسع العلمي والانفتاح الفكري في ظل الحكومة الجديدة التي حصلت على ثقة المثقف الذي لم يكن يثق في الحكومات السابقة، يذكر محمد علي مغربي ان هناك وكلاء للصحف والمجلات المصرية في كل من مكة والمدينة وجدة، يوزعونها ويستقبلون الاشتراكات، وكان في عدن مجلة اسمها الجزيرة، كان بعض الكتاب الحجازيين ينشرون فيها أدبهم شعراً ونثراً. أما اطراف الجزيرة العربية ، واعني بها الجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية، وإذا أردت التحديد، الأحساء والقطيف، حيث لم تكن أقل حظاً من الأطراف الغربية، فيما يتعلق بالاستفاء من الثقافة المصرية واللبنانية، فكانت تصلها الصحف والمجلات، عن طريق البحرين والكويت، لكنها تأتي في الدرجة الثانية بعد اقليم الحجاز، حيث تأثر أبناء هذه المنطقة بالثقافة الحديثة التي كانت تنقلها تلك المطبوعات الحديثة، ولذلك كانت الثقافة متنازعة بين مرجعيتين:
الأولى: تقليدية ازهرية، كما يذكر عز الدين الأمين.
والثانية: حديثة مجددة متأثرة بالنقد الحديث، المستفيد من الثقافة الأوروبية، وظهور المدارس النقدية الحديثة، التي كان على رأسها ظهور مدرسة طه حسين النقدية التي قوضت شيئاً من التراث المتهالك، وليس التراث المتواصل مع الجديد، بوصفه جديداً مطوراً عن الماضي، لكن هذا التأثير جر معه بعضاً من السلبيات، وهي سلبية التقليد، فظهر شعراء وكتاب قلدوا الكاتب المصري في بيئة لا تتفق بيئة الكاتب او الشاعر وما يمكن ان تحصل عليه من الحرية الفكرية والخصوصية التي لا تنطبق على الكاتب السعودي، وبالتالي تعامل معها الناقد بجدية تختلف وما يمكن ان يتعامل معه في مجتمع حديث الظهور على الثقافة العالمية، وكما انتقدوا نقائص المجتمع في بيئتهم رسموا صوراً من أحوال المجتمع في غير بيئتهم، كما فعل عبدالسلام هاشم حافظ في قصيدته: «خبيثة» والقصيدة تصف مجتمعاً لا يمكن أن يكون في الكثير من البلاد العربية في ذلك الزمن.
وشعر الأديب السعودي - مبدعاً وناقداً- أنَّ عليه واجباً جسيماً حيال نهضة هذا الكيان الوحدوي الكبير الذي شهدته الجزيرة العربية للمرة الأولى، بعد الخلافة الإسلامية التي انتهت بالغزو التتري البغيض الغاشم على عاصمة الثقافة العربية «بغداد»، وكان الأمل في ثورة الحسين بن علي، على الامبراطورية التركية المتهالكة في ذلك الزمن، وقد ألمحنا الى الحديث عنها في بداية هذا البحث لكن الأمل خاب عندما اكتشف المثقف ان الحسين يريد التطوير ويخافه في آن واحد، ويعتمد في آرائه على الرمل والودع وكل أنواع الشعوذة والسحر. ولم يجد المثقف- وهي ثقافة شعرية موروثة- أمامه إلا السخرية من الوضع القائم. يقول محمد حسن عواد، من قصيدة له يسخر فيها من وضع الحسين الذي يعتمد على السحر في زمن تتسابق فيه الأمم على التقدم العلمي:
وقيل إني رامل ماهر
أو سحار أو ملك في اهاب
فذاب هذا كله في يدي
رباه، رباه، ألا كيف ذاب
وهي قصيدة جميلة، حتى وان اختلفنا مع الأستاذ عبدالله عبدالجبار الذي قال عنها: وهذه القصيدة ليست ذات أثر يذكر من الناحية الفنية، لكننا نجد الأديب، وقد الزم نفسه - باحثاً أو مبدعاً أو ناقداً- بأن يعود بأدبه الى الجذور الأولى للثقافة العربية الإسلامية ليبني عليها جسور ثقافته الحديثة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تعليم هذه الفئة من النقاد وثقافتهم النقدية، وكذلك الدارسين، كانت ثقافة عربية تقليدية متأثرة بالدراسات التراثية النقدية القديمة، عند عبدالقاهر الجرجاني، واسامة بن منقذ، والجاحظ، وحازم القرطاجني، وغيرهم من العلماء. وتعدّ مكة المكرمة الدار العامرة بالعلم في الوقت الذي غلبت الأمية على أجزاء الجزيرة العربية الأخرى، عدا ما يجده الباحث من آثار قليلة بقيت في القطيف والأحساء من آثار العلم الشرعي، والشعر العربي الفسيح، كما ان الأدب في شرقي البلاد كان يعاني من التقلبات السياسية قبل التوحيد واعلان الدولة الحديثة، إلا انه لم يتوقف عن الصدور والبحث عن مصادر المعلومة في وقتها، فقد كان الطلاب يذهبون الى مراكز التعليم في كل من العراق والبحرين، والعلماء يهاجرون لطلب العلم، ما بين الهند والعراق الذي عرف منذ الفتح الإسلامي بالعلم والمعرفة الحرة والترجمات، والكتب تجلب من حيدر أباد الدكن حيث المطبعة الحجرية، وكانت الاتصالات تتم بين مصر وبلاد الهند والشام، من الحواضر الاربع في الجزيرة العربية، وبين بعضها البعض، فقد طبع ديوان الشاعر العيوني، علي بن المقرب في المطبعة العثمانية في حيدر اباد الدكن، على نفقة الاستاذ عبدالعزيز العويصي، وقد اصدره باخطمة، في مكة قبل ذلك بعدد من السنين، وكان الاستاذ العويصي من اقدم من فتح باب بيته للندوات الثقافية، وكذلك الطبعة الأولى لديوان السيد الطباطباني في المطبعة الحجرية نفسها، اضافة الى ما ذكرنا من جهود العلماء في مكة المكرمة من تشجيع وتضحية بالمال في سبيل نشر العلم، إن هذه التراكمات الثقافية التي تحدثنا عنها كانت تحتاج الى نقد يواكب الحركة الثقافية غير المستقرة، وهذا جانب كبير من جوانب التخلف الفكري، فإذا لم يوجد النقد البناء بجانب الإبداع فلن يتقدم الابداع. وما ان استقرت الدولة ونشأ فيها التعليم النظامي وتأثر النقاد بالنقد المصري في وقت ظهوره على العالم الذي يسيطر عليه النقد التقليدي المقصور على ظاهر اللغة وتحديد المواقع الجغرافية والمعلومة التاريخية وما شاكلها، وانشغال الدارس للأدب بدراسة اللفظ والمعنى واختلاف الرأي حول قول الجاحظ «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والاعجمي والبدوي» وإذا أمعنا النظر في جهود هؤلاء النقاد في بداية النهضة الأدبية فإننا نجد لهم ما يبرر آراءهم، فالأغلب منهم لم يكن مطمئناً للفنون القولية الحديثة بشكل عام، وثبوتها من ناحية، وتمسكهم بالتراث الأدبي القائم على الشعر، وهو ديوان العرب، كما عرف بهذا الاسم من ناحية ثانية فوجود المذاهب الاربعة في مكة والمدينة اضافة الى المذهب الخامس «الشيعي» في الأحساء والمدينة المنورة والقطيف، كما يذكر مدحت باشا، فلا بد ان يكون هناك شيء من النقد، سواء كان نقداً واقعياً او ذاتياً، لكن ما وجدناه من خلال الوثائق والدراسات والدواوين كان نقداً ذاتياً، يظهر فيه التحيز بالدرجة الأولى، فالناظم سليمان بن سحمان، كان متحيزاً ضد كل من يخالفه في الرأي، وكان التكفير ديدنه في كل رد يقوم به على من يجد انه ليس رأيه، وان كان يدافع عن الدعوة السلفية، وهذا رأيه، ولا اعتراض عليه، لكننا ندرسه من خلال تأثير هذا التيار على النقد، وان الدارس لا يجد موضوعاً ينقده، فالموضوعات المتهالكة لا تعين الناقد على دراستها، وإذا كان هؤلاء قد دافعوا عن الدعوة السلفية بمنظومهم، فإن الطرف الآخر في الحجاز قد حارب الدعوة وأهلها ومناصريها، فقد سجنت الحكومة التركية «الشيخ ابوبكر خوقير» في مكة لأنه سلفي، وبقي في سجنه حتى تولى الملك عبدالعزيز على مكة واخرجه من السجن، وقد مر معنا ما للشيخ خوقير من فضل على العلم وأهله، فقد كان يجلب الكتب من الهند ومصر الى مكة كل هذه أمور لم يقبل فيها الرأي الآخر في النقد، ولم يجدالناقد نصاً ذا روح يستطيع تحليله ودراسته، فما هي إلا منظومات متهالكة تقليدية الشكل والمضمون خاوية لا روح فيها وإضافة الى ذلك فإن المجتمع السعودي الذي يضم أغلب أجزاء الجزيرة العربية التي تضمه يحتوي تركيبة غريبة ومتعددة الثقافات والموارد الفكرية، والمكتسبة بالإرث، فالتعددية الفكرية تتكون من نوعين من التفكير، نوع استطاع ان يتعايش مع الأفكار الأخرى، ونوع رفض كل جديد وعدّه مخالفاً للعرف والدين والأخلاق، ولا يعاب على ذلك ولكنه يؤاخذ على اهمال بعض الآراء الحديثة وتحميل النص الأدبي فوق طاقته وتوجيهه الوجهة الارشادية المباشرة، ولا نستطيع القول إنه نقد أدبي بالمعنى الاصطلاحي للنقد، فهو نقد اجتماعي يدخل في باب النقد الأدبي، وان لم يعالج نصاً أدبياً كما هو معروف، لكنه أدبي من الناحية اللغوية والأسلوب الفني، فالشعر لم ينقذ في تلك الفترات المتباعدة من الزمن، لسببين:
الأول: ضعف النتاج الشعري - بصفة عامة- وان كان هناك الكثير من الشعر الجيد، لكن الطابع العام قد طغى عليه، فلم يكن الشعر الفصيح بذلك الانتشار الذي يؤهله للنقد والدراسة، فالميل كان للشعبي أكثر من الفصيح.
والثاني: عدم قبول الطرف الأول، وهو المبدع، لنقد الطرف الثاني، لأنه يرى ان النقد هجاء وتجريح، وليس بناء وتقويم، ولم يقبل كل من الطرفين الحوار والمناقشة، لذلك كثر الدجل، وشاعت الخرافة في المجتمع، واعتمد الفكر على السحر وأقوال العرافين، وظهر المثقف على هذا الفكر المتردي ونظر الى من حوله من البلاد العربية، فوجد فيها فكراً نيراً يحارب الخرافة والدجل والسحر والطرق التي دخلت المجتمع المسلم، ودمرته باسم الدين وظاهر الإسلام، والإسلام منها بريء، مثل العلاج بالقراءة غير الصحيحة، وكيف يتم ذلك وهو جاهل، لا يعرف إلا التمتمات، والطرق الدخيلة، مثل الصوفية وغيرها، وهي طرق رُفضت في أوروبا من قبل، ثم صدرت الى العالم الإسلامي باسم الدين، ولأن الرأي الآخر لم يجد قبولاً، فقد وجد الدجالون الفرصة مواتية لممارسة دجلهم من دون رقيب ولا محاسب، إضافة الى عقم الطرق التعليمية.
|