هل كان من قبيل الصدفة المحضة أن أكتب عن الحزن قبل أسابيع وينشر المقال في نفس الأسبوع الذي حل فيه الحزن ناشراً ظلاله بفقد العزيز علينا جميعاً الكاتب والصحفي والفنان صالح العزاز؟ جاءت المقالة عن الحزن بصورة غير مألوفة في الشعر، وكأني بأحد يهمس لي: وهل يمكن للحزن أن يكون مألوفاً إذ يتماثل للفؤاد المكلوم حيثما وكيفما كان التماثل؟ ألم يقل المتنبي في وصف فاجعة الفقد حين ألمت به:
كأن الموت لم يفجع بنفس ولم يخطر لمخلوق ببال |
هذا مع ان الموت هو الحدث الآخر الأكثر ألفة في دنيانا، الى جانب الحدث الذي يقابله دائما البوابة الأخرى للحياة، كما يقول ميحائيل نعيمة: بوابة الميلاد. الموت لا يقابل الحياة، قال لنا نعيمة، بل يقابل الميلاد. هذا لأن نعيمة يرى أن الموت في ذهن البعض، أو ربما الكثيرين، يعني الفناء، وهو لا يراه كذلك، أو هو يذكرنا بأن الحياة مستمرة، ولكن بصور أخرى.
في حياته معنا استطاع صالح العزاز أن يترك صوراً أخرى للحياة، صوراً لا بالمعنى الحرفي للتصوير فحسب، وإنما بالمعنى الابداعي لأن الفن، بوصفه الاشتغال المبدع للانسان، هو ذلك البحث الدائب عن الصور الأخرى، المحاولة التي لا تتوقف للاضافة الى المألوف ما يمده باتجاهات جديدة تعيد صياغته قبل أن ترفع من رصيده الكمي. وكان من اضافات صالح المميزة الكثيرة اشتغاله على التصوير نفسه، التصوير الفوتوغرافي، سعيه لترسيخ ذلك الفن المهمش في حياتنا الفكرية والابداعية واستثماره كنافذة كبيرة على أنفسنا وعلى العالم. حتى إذا فعل ذلك اتجه الى الحفر في الأشياء والوجوه، في تضاريس النفوس قبل تضاريس الأرض وأخيلة الكون، ليترك لنا من ذلك كنزاً لنا أثرينا به ولنا أن نثرى به ونستزيد. في ذهني تلك المشاهد التي تركها عن الجنادرية في عمله المميز المنشور بالعنوان نفسه، وقد لفت انتباهي سعيه الحثيث لالتقاط الوجوه في لحظاتها المتباينة: الفرح والقلق والترقب الى جانب الانهماك في العمل. ومن يطالع الكتاب سيلاحظ سلسلة من الصور للحرفيين إذ ينكبون على عملهم، كما سيلاحظ، وهذا ما أدهشني بشكل خاص، سعيه لالتقاط مشاعر الجمل، ذلك المخلوق/ الرمز في تكويننا الثقافي: صوراً تترى للجمل وهو يطالع المصور، وهو يقوم بدوره في العروض، ثم - في لقطة مثقلة بالحنان والحب - وهو يرخي برأسه في حضن صاحبه، الجمل الهائل حجما يستكين في لحظة بحث عن الحضن الانساني الدافىء.
حين رأيت صالح العزاز آخر مرة كان في طريقه الى نقطة التحول الأخيرة في حياته. كنت مع أحد الأصدقاء في فناء مجمع تجاري في جنوب كاليفورنيا قبل عامين وإذ بالرجل يطل علي من حيث لم أتوقعه ليسلم بحميمية عهدتها فيه، فكانت المفاجأة حلوة بقدر ما كانت مدهشة. قال لي في وقفته القصيرة إنه ذاهب الى ألاسكا، شمال أمريكا، لالتقاط بعض الصور للثلج هناك. لكن الله أراد غير ذلك ولا راد لارادته سبحانه. لكن ما احتفظت به من اللقاء هو ما احتفظت به عن صالح دائما: تلك الشعلة الدائبة البحث عما هو جديد وعميق، عما هو جديد ودال عبر العدسة والحس الإنساني الذي يحركها. لم يذهب صالح الى ألاسكا ولكن ألاسكا، ذلك التخم الآخر في مخيلة الفنان، هي ما كان يذهب اليه دائما، هي ما لم يغب أبداً عن الحس المبدع لديه، ففي كل أعماله كانت ثمة ألاسكا عدسة نفاذة تكتشفها، روم أخرى وراء الروم، كما قال المتنبي، حيز يرومه الفنان لبريقه واحتمالاته اللامتناهية.
حين يرحل الفنان خلف ألاسكاه أو رومه، نبقى نحن، معشر المتلقين، نرحل أيضا خلف ألاسكانا ورومنا، خلف تخوم يشغلها الابداع فينا، لنكتشف تدريجياً أو فجأة أن التلقي حيز من الفن وأن الفن حيز من التلقي. المتلقي فنان ينتظره الفنان، يحفر باتجاهه، يحلم به، يضمره قارئا لعمل أدبي، أو مشاهدا لمسرحية أو متأملاً للوحة أوصورة، كما يقول منظرو التلقي، المتلقي الفنان هو القابع في ثنايا اللوحة والصورة والقصيدة والرواية يقرؤها المرة تلو المرة ولا يمل، لأنه في كل مرة ينتج عملاً مغايراً، إن قليلا أو كثيراً، لما يرى. يصير العمل الفني للمتلقي طبيعة ثانية كما سبق أن قيل إذا افترضنا أن منتج العمل الابداعي يتعامل مع طبيعة أولى. فإذا تعامل المصور مع غروب الشمس أو وجه الطفل أو حزن الحيوان تعاملنا كمتلقين مع تعامل المصور نفسه، مضافا الى المشهد الأصلي. غير أن هذا لا يحصل دائما، وإنما هو الوضع الافتراضي، أو المثالي كما يبدو، وبين الواقع الماثل وعالم الافتراض تحديات منها غرابة الفن نفسه، أو جدته على البيئة الثقافية.
في بيئتنا الثقافية يمثل فن التصوير الفوتوغرافي بوصفه تحدياً يضاف الى تحديات التلقي الابداعي. ومع ان الجدة ما تزال تطارد الكثير من الفنون في حياتنا الثقافية، فإن التصوير من تلك الفنون الأجد والأكثر غربة لأنه ما زال صعباً على الكثيرين أن يروا في الكاميرا قلماً أو فرشاة من نوع آخر، فتغيب بذلك الطبيعة الثانية أو تتماهى مع الطبيعة الأولى، بمعنى أن ما يراه المشاهد في الصورة الابداعية ليس سوى غروب الشمس نفسه، ليس إلا وجه شيخ عجوز في احتفالات شعبية، ليس إلا البعير ملوناً أو من زاوية تبعث على الضحك. هنا يتوارى الفنان بتواري المتلقي المبدع القادر على التقاط الغروب الآخر والوجه الآخر والبعير إذ يتجلى عبر دلالة مستجدة. الفن الحقيقي معركة ضد التكرار والاستنساخ، لكن المعركة تواجه خسارتها عند المتلقي العادي الذي يواصل بحثه عن الأشياء كما ألفها، لا الأشياء كما لم يرها من قبل وكما ينبغي أن يراها الآن.
في تقديري ان صالح العزاز رحمه الله عاش معركة الألفة هذه كما عاشها أي فنان مبدع أمام غرابة فنه في وسط تغلب عليه مقاومة الجديد ناهيك عن العون على استضافته والاحتفاء به والتفاعل المبدع معه. ومع ان صالح لم يكن وحده في المعركة، ففي بلادنا عدد من المواهب المميزة في هذا المضمار، فإن لكل موهبة معركتها الخاصة لأن لكل موهبة عطاءها المختلف وبالتالي معركتها المختلفة.وبالتأكيد لست هنا في مجال التقييم لتجربة ثرية كتجربة صالح فنياً، بل لا أرى لدي الأدوات الكافية لذلك في المستقبل القريب. كل ما استطيعه في لحظات حزينة هو الوقوف المثقل بالاعجاب والألم أمام رائع فقدته مع غيري وأحلم برؤية منجزه يواصل رحلة الإثراء في أجوائنا الانسانية والثقافية والابداعية.
|