Thursday 26th December,200211046العددالخميس 22 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

حتّام يبتذل الجمال حتّام يبتذل الجمال
عبدالله بن ثاني*

حضرت فعاليات المشهد الثقافي الذي أقامته أمانة مدينة الرياض مشكورة وعلى رأسها سمو الأمين احتفالاً بعيد الفطر المبارك وآلمني عدم التفاعل الجماهيري مع أدباء الوطن ورموزه كما آلمني التركيز على أدب الحروب والناس يحتفلون بالعيد في مقابل غفلة وتجاهل الأغراض الأخرى، فتذكرت قول الشاعر القروي:


حتام يبتذل الجمال وتلتقي
في سوقه الحسناء والشوهاء
شكوى ولا ألم وتشبيب ولا
حسن وتعظيم ولا عظماء

لم يكن في تصور القروي ذات يوم الاقتصار على الجمال الحسي دون الجمال المعنوي الذي يمكن ان يتوافر في اي عمل كالأدب مثلاً، وبخاصة نحن أمة تلوذ في كل لحظة اختناق الأدب والشعر للتعبير عما يجيش في خاطرها من آلام وآمال وتسجيل مواقف شريفة وحث على فعل الخير ونشر المبادئ الفضيلة ومكارم الأخلاق، مثلما فعل كعب بن زهير عندما ضاقت عليه الأرض بما رحبت فقدم بين المصطفى صلى الله عليه وسلم اعتذاره بقصيدة عصماء وعفا عنه وألقى عليه بردته صلى الله عليه وسلم رضا بما صنع وقال، وما خلد وفاء السموأل إلا قصيدته «إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه»، وما أعطى فتح عمورية تلك القيمة التاريخية الا قصيدة أبي تمام «السيف أصدق أنباء من الكتب»، وما عرف الناس في مراحل التاريخ هرم بن سنان وسيف الدولة لولا قصائد زهير بن ابي سلمى وأبي الطيب المتنبي، كل ذلك يؤكد ان العرب أمة شاعرة بالفطرة، ولا يمكن ان تدع الشعر حتى تدع الإبل الحنين كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها، بل ان الاهتمام بهذا الفن لم يكن مقتصراً على العرب وحدهم، فهذا الجنرال ديجول لحظة العودة المظفرة الى باريس أمر بإلقاء قصيدة الحرية لإيلوار «شاعر الحرية» من طائرات تحلق فوق باريس وأكد هو نفسه أكثر من مرة أن اوروبا امتلأت بالحروب القذرة، لأنها لم تعد شاعرة بما يكفي لإيقاف نزيف تلك الحروب، وافتخر ونستون تشرشل مرة بأنه من بلد شكسبير ولم يذكر انه من بريطانيا العظمى، واستعان ستالين بقبر الكاتب ديستويفسكي ليحرض الروس على مقاومة الجيش الألماني عندما اقترب من قبره..
نعم من قاوم الظروف فرسم بقدميه بعد أن فقد ذراعيه مثل الرسامة «كليا» في رباعية الاسكندرية يستحق البقاء نموذجاً استثنائياً، ومن زرع قصائده في زجاجات تحت التراب بانتظار بعث جديد كما فعل الشاعر يانيس ريتسوس يستحق الوقوف أمامه طويلاً لتقرأ الأجيال طريقته العفوية في احتجاجه على النقاد المتسلطين الذين يقرؤون بعين واحدة لا ترى أبعد من أرنبة أنف صاحبها نعم من قال «أنا الطائر المحكي والآخر الصدى» يدرك أبعاد شعرية الأمة التي يرفعها بيت من الشعر ويضعها بيت آخر ولا أدل على ذلك من قصة بني أنف الناقة، ومن قال «إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً» يدرك أبعاد المعادلة التي ستبقي البطل بطلاً والشهيد شهيداً والخائن خائناً في ظل حراسة المعايير الثابتة التي خلدت الشعر كما خلدت الاعلام والمواقف التي تغنى بها الشعر سلباً وايجاباً بعد ايمانه بالحرية على طريقة الرافعي عندما عرفها بمفهومها المطلق في رسائل الاخوان بأنها الابتعاد عن القيود، والمعرفة ايضاً بمفهومها المطلق عندما عرفوها بأنها قيود منطقية وعلمية، وبينهما ثبت الشاعر كالطود العظيم في وجه عوامل التعرية على الرغم من امساكه احياناً القلم بإصبع واحدة ليكون حراً من جهة ومنطقياً من جهة أخرى في مشهد ذي نمط صعب ونمط مخيف ليضيف بعبقريته الى تلك الاصبع مهمة جديدة بالاضافة الى اشارته عندما ينطق اللسان بالشهادة وحركته عندما يتكلم الزناد، ولا احد يدرك اهمية تلك المهمة غير القليل الذين أحبطوا بواقع أدبي قد تحول خارج وعينا وتمرد على قدرتنا في رصده لنعيش ظاهرة التدابر شاهدين على حجم الهزيمة الثقافية في مشهدنا الثقافي الذي يحتاج الى الوعي والإدراك كي يبعث من جديد ليشارك في صياغة الواقع والتخطيط للمستقبل وفق ما تتطلبه المرحلة من التركيز على المبادئ السامية والإيمان بوحدة التجربة الإنسانية، قال ابن الطفيل: «إذا ما وظف الوعي في حياة الانسان استطاع ان ينتقل من مستوى الى مستوى افضل في الرقي الاجتماعي الحضاري بفضل الجهد المبذول» ويصل الأدب الى مرحلة الرضا واليقظة من خلال النظر الى اعماق نفسه والاصغاء جيداً لنداء الضمير الحي ليرى كل شيء بوضوح وصدق كما قال الاديب روسو.
ما اخشاه صدقاً ان يستمر صمت المشهد الثقافي حد الاحتضار المؤلم وكأنه السيدة رينية زوجة الحاكم الفرنسي عندما غضب عليها ذات شجار وقال لها ان كلامها فارغ وهراء، فقررت الصمت حتى الموت مع ايماني الشديد بشبه واقع الأدب بواقع السيدة رينيه التي صدقت زوجها الدكتاتور في قمعه لها فقررت الصمت ولم تنتفض حتى في أعز مناسبة مرت عليها وهي زواج ابنتها الوحيدة احتجاجاً على سياسة خرقاء مثلما تحتج القصيدة الفصيحة على الكتابة بإصبع واحد فضلاً عن التفسير الخاطئ للنص الأدبي وسبر أغوار النية والتدخل التعسفي في النص حتى وصل الأمر بالأديب الى مرحلة التعليب والتحنيط وكأنه بطل لقصة تشيخوف الروسي «الرجل المعلب» عندما يصادر ذوقه وفنه ارضاء لذوق فم مريض يجد به صاحبه مراً الماء الزلال مثلما فعل هنري ميشو الفرنسي الذي يفتخر على زملائه الأوروبيين باختراع المقصلة، الفرنسية في زمن الثورة عام 1789، لأنها كانت تذهب باللسان والرأس في حين ان الآخرين كانوا يكتفون بخلع اللسان دون الرأس تطبيقاً لمبدأ الأحادية، ذلك المبدأ الذي بتر اصابع فكتور جاراً عقاباً على جمال عزفه، وقطع قبله اصابع الخطاط العربي ابن مقلة، وحول عمل فاجنر الموسيقي الذي مجد الانسانية والبطولة الشعبية ونبذ الشر في مسرحية «خاتم النيبيلونج» الى اغراض الحرب والتدمير والسيطرة على الشعوب ومصادرة الآخر على يد زعيم النازية هتلر وقبله نيرون الذي تمرد على عقله عندما اشتد به الجنون فاعتقد انه خير من أوتي الإلهام في الموسيقى والشعر وانتقل من التنظير الى التطبيق عام 64م اذ خطر بباله الحريق الذي قضى على طروادة، فأحب ان يراه ثانية، فأحرق روما واستمر الحريق ستة ايام وسبع ليال ودمر ثلثي المدينة وقضى على أعز تحفها الفنية وبنيتها التحتية وجلس يمارس جنونه على مرتفع مطل عليها متلذذاً بمشهد النيران وهو يعزف على قيثارته غير آبه بالآلام التي سببها للكائنات بل انه لما استيقظ من غفوته تلك طارد البشر متهماً إياهم بتدمير الحريق..
متى يفهم الإنسان ايها النبلاء انه جزء من هذا الكوكب وليس سيده على الاطلاق عندما يتصرف دون مراعاة لبقية افراد المجموعة! ومتى يدرك انه لايحق له خرق اسفل السفينة بحجة انها جزء مملوك لارادته التي ثقبت طبقة الأوزون وملأت الأرض بنفايات أسلحة الدمار والاشعاع النووي وشوهت الجمال في الأدب وغيره محاولة فرض سيطرة الإنسان وتعميم نموذجه الشخصي والسعي جاهداً الى القضاء على مظاهر الحياة وأسباب التقدم والازدهار والتمدن، فقبيح ذلك الجزء الذي لا يتناغم مع الآخر في جهله المتأصل بأن الحرية ليست التخلص من العبودية التي يفرضها الآخرون بل هي في ابسط تعريف لها التخلص من عبودية الذات أولاً، ولذلك لن ينسى التاريخ البشري نموذج الابداع سقراط الذي مات محكوماً عليه بالإعدام، وكان الذي قدمه للمحاكمة رجل متسلط من اغنياء اثينا ضاق ذرعاً بسقراط وعلمه وفلسفته، فأخذ يفسر كل ما توصل إليه سقراط على طريقته حتى يدينه، وربما الشيء الوحيد الذي كان يجهله ابو الفلسفة انه محكوم عليه بالإعدام مهما دافع عن نفسه ونظرياته بالحجج والبراهين..
ايها السادة نحن مقبلون على مهرجان الجنادرية وفعاليات الثقافة، ويستضيف الوطن فيه الادباء والمفكرين والشعراء ولا بد من عمل آلية تتغلب من خلالها على الإحراج بسبب قلة الحضور للمشهد الثقافي والحرص على توجيه الدعوة لأعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا بشكل أوسع..
والله من وراء القصد.
* دولة الإمارات العربية المتحدة رأس الخيمة

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved