Wednesday 25th December,200211045العددالاربعاء 21 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

بين الأمير تركي الفيصل وكولن باول بين الأمير تركي الفيصل وكولن باول
زياد الصالح

لا يحتاج المرء لكثير من العناء لتأكيد التحديات الجدية التي باتت تواجهها المملكة العربية السعودية، مما يفرض الاعتراف بها والسماح بمناقشتها بين كافة شرائح المجتمع السعودي لدرء المخاطر التي قد تنجم عنها، خاصة وان السعوديين يحتاجون في هذا الوقت لسبر أغوار مستقبل بلادهم، والالتفات للمرئيات المختلفة حيال المستقبل السعودي بحوارات مستفيضة لبلورة رؤية استراتيجية تحافظ على المكتسبات الوطنية العملاقة التي تحققت للمملكة في العقود الثلاثة الأخيرة.
الاعترااف بطبيعة هذه التحديات ومناقشة العوامل الداخلية المؤدية لتكريس مفاهيم تعطل التطور هما سبيلان جديان لتجاوز أزمة أضحت تطوق العالم العربي بأكمله علاوة على العالم الإسلامي، وزادت حدة هذه الأزمة التي تنحصر في معضلتي الأصالة والمعاصرة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر لتتحول في الغرب إلى ظاهرة مرضية ظاهرها الرغبة في إحداث تغييرات جذرية في البنيات المعرفية في بلداننا وباطنها الحد من الأنشطة الإسلامية التي تقوم بها عن قناعة وإيمان وتطويق المد الدعوي علاوة على تضييق الخناق على الدول والمجتمعات التي تناصر القضية الفلسطينية.
هاتان المسألتان من أبرز ما تتميز به السياسة الخارجية السعودية وتعتز بهما إضافة لمخاوف أمريكية من أن تتملك بعض الدول أسلحة متطورة يمكن ان تخلق نوعا من توازن الرعب مع اسرائيل.
ان نفي وجود بعض الاشكالات في حياتنا المعاصرة لن يجدي نفعاً في تطور مجتمعاتنا، كما ان مسايرة الرغبة الغربية في التغيير ستكون نوعا من التبعية العمياء التي ستفضي إلى حلول ومعالجات مستوردة بما يهدد اللحمة المعرفية وضرورات الحراك الطبيعي والتطور لكل مجتمع، ولعل هذا ما ذهب إليه رئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل في أكثر من مناسبة إعلامية كان آخرها الحوار الذي أجراه معه التلفزيون الكويتي، والرجل أظهر كفاءة وقدرة حقيقيتين في مجالي الإعلام والعلاقات العامة وهو يذود عن بلاده في أعقاب أحداث11 سبتمبر.
طرح الأمير تركي الفيصل رؤية تستبطن تفهما عميقا لضرورات التغيير في السعودية استجابة لمنطق التطور والنهوض متناولاً نقاطاً في غاية الأهمية عن التحولات الاستراتيجية التي طرأت على مرجعية الخارجية الأمريكية وحراكها السياسي، مما يعد تدخلا مباشراً في سيادة الدول، ومتعارضاً مع ما تنص عليه القوانين الدولية، ومانعا للشعوب من ممارسة حقها المشروع في تقرير مصيرها بإرادتها السياسية وفقا لمرجعياتها الدينية والمعرفية والثقافية بما يتلاءم مع نموها الاجتماعي، ومتناغما مع الصيرورة التاريخية الداعية إلى التطور، وما لفت إليه الأمير تركي الفيصل من أهمية أن ينطلق التغيير من الداخل ضمن اتفاق بين الحاكم والمحكوم، والواجب التاريخي الذي تمليه المرحلة بتقييم الأوضاع كافة، وشحذ الهمم والتكاتف والالتفات إلى التحديات يطرح بحد ذاته آفاقا رحبة لحوارات لابد أن يأخذها السعوديون على عاتقهم بهدف الوصول إلى نتائج واضحة حيال ماينبغي القيام به ومواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهنا.
كتب كثيرون عن العلاقات السعودية الأمريكية، ولم تزد كتابات معظمهم عن تقارير وصفية لما هو كائن وقائم في الولايات المتحدة، بل وتتجاوز ذلك لتبرره أكثر من كونها تحليلية متعمقة، والواقع ان ما يحدث في الولايات المتحدة يؤكد التحول الجذري في سياساتها، فعلى مستوى الفعل الرسمي تعقد جلسات خاصة للاستماع في أعلى الهيئات التشريعية، وتشهد أروقة الكونغرس ومجلس الشيوخ مداولات حامية حول شتى الموضوعات، وعلى رأسها مستقبل العلاقة بين واشنطن والرياض، وحقوق الإنسان في السعودية وحقوق المرأة على وجه الخصوص، بل ان المداولات طالت أوضاع أبناء الأسر السعودية من أمهات أمريكيات وطرحت أسماء ورموز من الأسرة الحاكمة بدعوى أنهم قاموا بتمويل الجماعات الارهابية، إضافة إلى قضية تعويضات أسر ضحايا 11 سبتمبر، والاتهامات التي وجهت ظلماً إلى الرياض بسعيها لامتلاك اسلحة نووية واجراء استطلاعات للرأي في الولايات المتحدة تكشف عن ان الشارع الأمريكي لايعرف هل السعودية بلد حليف أم عدو؟ علاوة على محاضرة لوران موروايك أمام مجلس السياسة الدفاعية التي وصف فيها السعودية بأنها العدو الرئيس لبلاده، ومشروعات القوانين الخاصة التي طرحت متقصدة السعودية، والغريب ان السعودية هي البلد الوحيد الذي ذكر بالاسم في إطار القانون الذي سن مؤخرا بشأن انشاء وزارة للأمن الداخلي متضمنا نصا يمنع اصدار تأشيرات سفر للسعوديين باجراءات ميسرة، ووصل الأمر إلى درجة اتهام الأميرة هيفاء الفيصل بدعم وتمويل أحد منفذي الاعتداءات فهل نملك أمام هذا السيل الجارف من التقصد والاستهداف إلا الاعتراف بأن بلادنا تواجه أشرس حملة ظالمة من نوعها في تاريخها، مما يستدعي تجاوز كتابة التقارير الوصفية إلى التحليل الدقيق واستقراء المستقبل والتنبه لما يمكن ان تتعرض له المملكة من مخاطر؟
إن الأمر يبدو وكأن التناغم الحادث في الولايات المتحدة حيال الحملة ضد السعودية ليس وليد مصادفة 11 سبتمبر وحدها إنما يستر مخاوف حقيقية إزاء جهود الدبلوماسية السعودية والمواقف السياسية المؤثرة على الخارطة الشرق أوسطية إضافة لما باتت تشكله الهيئات الدعوية في أعمالها الخيرية من هاجس دائم في الغرب فالحملة لم تقتصر على الصحافة الصفراء وحدها، ولم تتوقف عند حد محاضرة أو محاضرتين في الهيئات الاستراتيجية الأمريكية، أو جلسة أو جلستين في الهيئات التشريعية، بل شملت وسائل إعلامية لها ثقلها ووزنها، إضافة إلى انها استدرجت مسؤولين سابقين على شاكلة فريد اكلي Fred Ikli وكيل وزارة الدفاع في عهد الرئيس ريغان الذي هدد بحرب نووية ضد الأماكن المقدسة في مقال نشرته جريدة وول ستريت جورنال Wall street Journal في 2 يونيه 2002م ولزاما علينا ان نعترف بأن هذه الجهود المتواصلة في الدعاية ضد بلادنا أثمرت للأسف عن تشويه صورة السعودية في الخارج وأعطت انطباعات سلبية رغم المجهودات الكبيرة التي يبذلها المسؤولون والمجلس الأعلى للإعلام والأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في الولايات المتحدة والأمير تركي الفيصل الذي يبدو أنه تسلم مهام منصبه كسفير في عاصمة الاعلام والثقافة الغربية قبل ان يصل إليها، ويبدو كذلك أنه في كامل الجاهزية واللياقة الإعلامية والقدرات المطلوبة في هذا الوقت في مجال العلاقات العامة، إلا ان هذه المجهودات تظل مبادرات فردية تعوزها آليات جديدة ينطلق بها الإعلام السعودي وخاصة القنوات الخاصة المملوكة لسعوديين التي يبدو أنها آخر من ينتبه لحجم المخاطر التي تحيط بالسعودية، ومن المؤسف أن تظل مثل هذه الأجهزة الإعلامية في خدمة التسطيح والترفيه الساذج، في حين ان المرحلة تتطلب دوران عجلة الإعلام السعودي بأقصى فاعلية بل ان المرحلة الحالية تقتضي تنظيم الجهود كافة من أجل وضع خطط بعيدة المدى لتحقيق أهداف محددة ومرجوة في أن ننتقل من حالة ردات الفعل إلى مرحلة الفعل، الا يتفق معي سمو الأمير تركي الفيصل في أن الأزمة الراهنة بين واشنطن والرياض بعد الاعتراف بها تحتاج إلى تشكيل هيئة على أعلى المستويات لادارتها بشكل استراتيجي، خاصة ان التوقعات تشير إلى ان استهداف السعودية لن يرتبط بظرف زمني محدد سرعان ما يتبدد، وإنما يتمحور حول أجندة بعينها تسعى جهات لتمريرها لضرب جهود الدعوة الإسلامية ونسف العمل السعودي الدؤوب في مناصرة الفلسطينيين، علاوة على الذرائع بسعي الرياض لامتلاك أسلحة نووية، مما يعني ان الأزمة ستتحول تدريجيا إلى صراع بقاء بين السعودية وقوى اقليمية ودولية باتت تضع للسعودية كدولة كبرى ألف حساب، وتعمل وفق خطط بعيدة المدى لتشتيت القدرة السعودية هذا من جانب، من جانب آخر ينبغي ان يلتقط السعوديون قفاز التغيير التدريجي والتطور الطبيعي من دون ان يضعوا في الاعتبار الاملاءات الخارجية التي تطالبهم بمجاوزة منطق التطور الطبيعي كمثل الدعوة المشبوهة التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكية كولن باول بقيام شراكة بين بلاده والبلاد العربية تتأسس على 29 مليون دولار من أجل الارتقاء بالشعوب العربية نحو الديمقراطية، ولعل المعايير التي أطلقها السيد باول حول الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تختلف كثيرا عن تعريف الإرهاب!!
الديمقراطية وحقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني وفقا للنظرية الأمريكية الجديدة تقوم على ميكيافيلية وقحة تضع المصالح الأمريكية نصب عينيها، وتبشر بأمركة العالم تحت غطاء العولمة، وتؤمن بأن على الشعوب الاستجابة الفورية للشروط الأمريكية في الحياة، فالمقصود ليس الديمقراطية بحد ذاتها كوسيلة لترقية النشاط الإنساني وتنظيم تعاملاته وكفالة حقوقه، المعنى العميق للمبادرة الأمريكية يستبطن توجها استئصاليا لرغبات الشعوب وانتخابها الطبيعي لتجاربها ومعارفها فالسيد باول يرغب في الغاء تجربة كل مجتمع على حدة لتقبل كل المجتمعات في الكوكب الأرضي الخيار الأمريكي المتمثل بالهيمنة لوضع الخطوط العريضة للمجتمعات كيف تعيش؟.. وكيف ترتقي بنفسها؟
إن السيد باول يدرك جيدا المعطيات السياسية في الشرق الأوسط والأطراف التي ينبغي بالفعل حثها على مراعاة أبسط الحقوق الإنسانية، والسيد باول يدرك كذلك ان تجربة بلاده الديمقراطية تمر في انتكاسة نبه إليها أكثر من كاتب ومفكر، وان السياسات الخارجية الأمريكية تمر بمرحلة انعدام وزن وتعاني تخبطا أطاش صوابها وجعلها غير قادرة على التمييز بين الدفاع عن المصالح بالطرق المشروعة، وخرق القوانين التي تبشر بها ولعله يجدر تذكير الرجل بأوضاع سجن غوانتنامو قبل ان تتصدى وزارته لأوضاع العالم العربي.
نعم نتفق مع باول في أنه ليس بالإمكان تأكيد الفكرة القائلة باستحالة احتمال بعض المناطق في العالم للديمقراطية لكننا نختلف معه جذريا في النتائج التي يمكن ان تخلفها تحولات سريعة تجرى على الجسد العربي، فالقضية بمنطق باول هي قضية هامش الحرية الذي يجب ان يتسع لتتقلص المخاطر على أمريكا، والقضية بمنطقنا هي قضية كيفية إحداث تنمية حقيقية في العالم العربي تكون قادرة على موازنة العصرنة والأصالة وتتمكن من قيادة خطى التنمية المستدامة على كافة الصعد.
إن مبادرة الشراكة الأمريكية العربية يمكن ان تكون أساسا لعلاقات حضارية راسخة في ما لو تم حسم قضايا رئيسة مثل الصراع العربي الإسرائيلي، وفي ما لو اهتمت واشنطن بقضايا التنمية الاقتصادية والانتاج والصحة والتعليم في الوطن العربي، فالإنسان العربي في هذه الحالة سيكون قادرا على المضي قدما في تأسيس مجتمعه المدني ومؤسساته المختلفة استنادا إلى حضارته وحوارها (الديمقراطي) مع الحضارات الأخرى، أما ان تتسلط حضارات أخرى على حضارته لتغويها إلى طريق نهضة كسيحة فإن مؤدى ذلك نتاج مشوه سيزيد من تراكمات الأزمة الحاصلة.
وبالعودة مرة أخرى لما طرحه الأمير تركي الفيصل، يتضح ان رغبة التغيير هي رغبة عامة، وهم مشترك بين المسؤولين والمفكرين والشعوب، لكنها تحتاج لتحديد آليات واستشراف المستقبل وفق جهود جماعية تحتضنها هيئات متخصصة، وفوق هذا فإن التحديات المطروحة تحتاج قياس رأي الشارع السعودي بناء على آليات استطلاع الرأي العام وتجنيد الوسائل الإعلامية لمواجهة الأزمة والمشاركة في إدارتها بنهج علمي متزن، يضع مصالحنا الاستراتيجية في الاعتبار ويوحد الجهود الفردية المبذولة في إطار جهد جماعي يتصدى لحملات التشويه والكراهية التي يمكن ان تحقن مستقبلنا بعداوات ونظرة متحيزة من قبل الآخرين.

(*)كاتب ومحلل سياسي - لندن

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved