Monday 23rd December,200211043العددالأثنين 19 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

عندما أصابت امرأة!! عندما أصابت امرأة!!
الدكتور محمد أبوبكر حميد

في إحدى ليالي تفقده لأحوال الرعية، وأثناء اطمئنانه على أمن بيوت المسلمين، سمع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تنشد في ساعة متأخرة من الليل.


ألا طال هذا الليل وازور جانبه
وليس إلى جنبي خليل ألاعبه
فوالله لولا الله تُخشى عواقبه
لحُرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياءُ يعفني
وإكرام بعلي أن تُنال مراتبُه

فسأل عمر رضي الله عنه عن حالها، فقيل له: إنها زوجة خرج زوجها للجهاد منذ ثمانية أشهر، فسن رضي الله عنه قانوناً يمنع غياب الزوج عن زوجه أكثر من أربعة أشهر.
تأملت هذه الواقعة فرأيت الى أي عمق يمتد عدل الإسلام واهتمامه بحقوق المرأة في أدق خصوصياتها.. خصوصيات يمنعها الحياء من الإفصاح عنها أو الشكوى منها.. خصوصيات أدركها خليفة المسلمين فخرج يتفقدها، فلما عرفها أمر بإنصاف المرأة فيها، وما أكثر الوقائع التي تشهد لهذا الخليفة العظيم في الاعتراف للمرأة المسلمة بحقها الذي منحه الله لها من فوق سبع سماوات.. هذا الحق الذي يحاول بعض الذين لا يفقهون الانتقاص منه.. حق اعترف به صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني خلفائه العظام حين صرخ بأعلى صوته وقال بملء فيه أخطأ عمر وأصابت امرأة بعدما راجعته إحدى النساء في أمر من الأمور وهو يخطب في المسلمين.
ألا فليتق الله هؤلاء الذين يغيبون عن زوجاتهم بالسنين، وإذا كان نساء البلاد التي أفاء الله على أرزاقها فيها لا يشعرن بهذا الحيف ولله الحمد، فإن نساء البلدان التي جعل الله أرزاق رجالها خارجها يعانين من وحشة الوطن في غربة الزوج وغيابه، وأسوأ هؤلاء الأزواج جميعاً هم هؤلاء الذين يصرون على العيش عُزاباً في الغربة مع القدرة على استقدام زوجاتهم وأولادهم.
إن لعلماء المسلمين رأياً يقف في صف الزوجة إذا طال غياب الزوج لسنوات دون مبرر مقبول شرعاً، فما أصبر من الجمل إلا امرأة عفيفة شريفة ونساء المسلمين يأتين في مقدمة هذا النوع من النساء كالمرأة التي اشتكى لسانها واقع حالها في بهيم الليل.
والحقيقة المرة في واقع المجتمعات المسلمة المعاصرة أن الهجرات الجماعية لآلاف بل مئات الآلاف من شباب ورجال المسلمين دون زواج أو دون زوجاتهم قد أفرزت أنواعاً عديدة من الأمراض الاجتماعية والنفسية، وشجعت على التحلل الخلقي في المجتمعات المهاجر منها وبعض المجتمعات المهاجر إليها، وقد زاد من تفاقم هذه المشكلة تأخير زواج الشباب بسبب ارتفاع المهور والمبالغة في تكاليف الزواج الأمر الذي يؤدي الى هجرة أكثر الشباب في بعض البلدان لسنوات عديدة خارج أوطانهم، فيفقد الكثير منهم عفته وتقل استقامته ويفتن في دينه إذا كانت هجرته خارج البلاد العربية والإسلامية.
إنها مشكلة مزدوجة شقها الأول غياب الأزواج عن زوجاتهم أكثر من الشهور الأربعة التي حددها خليفة المسلمين عمر رضي الله عنه وما يمكن أن يتعرض له الزوج خاصة خلال السنة أو السنتين التي يعيشها بعيداً عن زوجه وما يمكن أن تتعرض له زوجته من مغريات في غيابه وإن كان الخطر على الزوج أكثر منه على الزوجة لأن المرأة بطبعها إذا تحصنت بدين أكثر احتمالاً من الرجل.
والشق الثاني مشكلة الشباب المهاجر في سبيل العيش وما ينتج عن ذلك من تأخر الزواج وما ينجم عن هذا التأخير من مخاطر على سلوكه وخلقه ودينه. انه امتحان عظيم من أكبر ما ابتلي به الإنسان المسلم في هذا العصر بحاجة إلى حلول اقتصادية وسياسية وشرعية.
مساكين هؤلاء!!
مساكين هؤلاء يجعلون من «كفاءة النسب» المعيار الوحيد في اختيار أزواج بناتهم أو زوجات أبنائهم.. مساكين هؤلاء الذين يتقدم للزواج من بناتهم الشاب المتين الخلق القويم الدين المكتمل الرجولة فيرفضونه لأن نسبه لا يرقى إلى مستوى نسبهم الذي يرونه رفيعاً، وهم لا يعلمون أن الرفعة الحقيقية هي رفعة الخلق والدين.
وقد تقبل هذه العائلة الرفيعة في الحسب والنسب وضيعاً في خلقه ضعيفاً في دينه لحمله مؤهل كفاءة النسب، فيسيئون إلى حياة ابنتهم ويدمرون مستقبلها ويحكمون عليها بالتعاسة، وربما الانحراف لاحقاً لا سمح الله وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً.
وإذا كان عقدة كفاءة النسب قديمة تعاني منها المجتمعات المسلمة منذ ترك الناس لباب الإسلام وتمسكوا بالقشور الدخيلة عليه، فإن عقدة «الجيب» من إفراز التهالك المسعور على الدنيا وطغيان المادة في حياة الناس على كثير من القيم الروحية والأخلاقية، فنسي كثير من الآباء والأمهات بل والبنات أنفسهن المعايير الحقيقية لمواصفات شريك العمر بحيث أصبح جيب الزوج العامر يفوز بنصيب الأسد في الاختيار بل نجد كفاءة الجيب في كثير من الأحيان تُبطل كفاءة النسب فيتنازل المتمسكون بهذا الشرط عن كفاءة النسب ويضعفون أمام كفاءة الجيب.
وفي بعض الحالات التي يتجاوز فيها الزواج ما يسمى «كفاءة النسب» نجد الزوج أو الزوجة من الذين ترسبت في نفوسهم هذه العقد النفسية بسبب الجهل أو التربية أو بهما معا يتطاولون على أزواجهن أو زوجاتهم بأنسابهم إن شعورياً أو لا شعورياً فيلقي ذلك بظلاله الكئيبة على حياتهم ويُنغص على مسيرة حياتهم الزوجية.
وإذا كانت هذه الحالات جميعاً التي وصفناها ليست الأكثر قياسا بالحالات السوية الداعية بأحكام الدين، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التفاخر على الغير بالنسب حتى ولو كان النسب النبوي الشريف نفسه، وقال منكراً ومحذراً: يا آل محمد إني لا أُغني عنكم من الله شيئاً.. لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.. والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.
فالعمل الصالح هو المقياس الوحيد لمكانة الإنسان في الإسلام مؤيداً بقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: «من أبطأ به عمله لم يسبق به نسبه»، ومقياس الإسلام في كفاءة الزواج قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه» وبالمثل أبطل الإسلام «كفاءة الجيب» كما أبطل كفاءة النسب في الزواج فقال: «فزوجوهم فقراء يغنكم الله».
وما أكثر المناسبة التي يعيشها هؤلاء الذين يُعرضون عن الاحتكام لأحكام الله ورسوله، وما أبشع الجاهلية التي يصر بعض الناس على الارتكاس فيها أحيانا باسم الدين وأحياناً عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، ولو عاد هؤلاء إلى كلام الله والرسول لأراحوا واستراحوا، ولكنه «الشقاء» يصر عليه الذين لا يلتقي هدي الله مع هوى أنفسهم.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved