Monday 23rd December,200211043العددالأثنين 19 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

المصالحة مع النقد المصالحة مع النقد
د. عبد الرحمن الحبيب

النقد أوله قلق، وآخره أفق، وما بينهما جدل مشرع للمبدعين، ومنافع يستطيب بها الحائرون، ونحن في مجتمعاتنا العربية تعوزنا ممارسة النقد كمنهج تقويمي، ونفتقر إلى التناقد وحرية النقاش، نفتقرها منذ الطفولة، حين كنا نغني كما ينبغي للأطفال أن يتخيلوا.. وحين كان الأب مستبداً برأيه في المنزل، والمدرس وحشاً في الفصل، وعلينا أبناء وتلاميذ أن ننصاع للأوامر دون مناقشة أو اقتناع أو إعمال الفكر والنقد. هنا تُبنى اللبنة الأولى لضيق الأفق والتعصب وكره النقد، لبنة قد يستعصي اقتلاعها فيما بعد.. سيكون من اليسير على الاستبداد أن ينمو، وسيغدو من السهل إقصاء الآخر وتثبيط الملكات والمواهب، سيكون من العسير الاعتراف بالأخطاء أو اكتشافها، ناهيك عن استشرافها وإبداع الحلول.. فكيف حال النقد؟
الخطأ في التطبيق لا النظرية! هذا ما يردده جلُّ المنظرين ومريدوهم وقادة التيارات الفكرية حالما تخيب آراؤهم.. نظريتنا علمية واقعية، والفشل الذي حدث كان في سوء التنفيذ وفي أشخاص طارئين وليس في جوهر النظرية أو فروعها أو وسائلها، لذلك لا يعوزنا الابداع ولا النقد الذاتي.. فما بالك بنقد يأتي من الآخرين؟ فعلى الآخرين أن ينقدوا ذواتهم وأن يقبلوا نقدنا وأن يحسنوا فهمنا، أما نحن فننام ملء جفوننا عن شوارد التبدلات العالمية وعن الطوفان القادم..ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:«رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي» هذا عمر يقرُّ بوجود العيوب حتى في شخصه وهو أمير المؤمنين الذي لا يُضارع، بل إنه يُشبِّه عملية النقد بالهدية، ويمتدح مهديها بالترحم عليه.. إنها عبقرية إدراك منفعة النقد! وإذا كان الإمام الشافعي يعد ذكر عيوب الصديق علانية فضيحة وذكرها سراً نصيحة، فلأنها علاقة شخصية بين أفراد وليست علاقة عامة أو موضوعية بين تيارات وأفكار وقناعات أو موجهة لأعلام أو مسؤولين.. ولأبي حيان التوحيدي في مثالب الوزيرين عن الصاحب بن عباد قوله: «هكذا يفسد من فقد المخطئ له إذا أخطأ والمقوم له إذا اعوج والموبخ له إذا أساء.. لا يسمع إلا صدق سيدنا وأصاب مولانا».. نحن إذاً في غنى عن ذكر منافع النقد فيما نجده في الأمم المتقدمة، طالما في تراثنا ما ينضح به الإناء، فلماذا، إذن، نتوجس بالناقد ريبة في أحسن الأحوال، ونظن به الظنون والحقد الدفين في أغلب الأحوال؟؟
في زعمي أن اشكاليتنا مع تقبل النقد تتأتى من عدة مصادر أحدها ألمحت إليه في المقدمة وهو نمط التربية غير الحوارية النقدية التي تفتقر للمحاججة، ومن ذلك أيضاً مفهوم النقد كمصطلح وكتطبيق، تقول العرب نقدتُ الدراهم وانتقدتها، إذا أخرجت منها الزيف، وناقدتُ فلانا إذا ناقشته في الأمر، كما جاء في صحاح الجوهري، والنقد يعرِّفه «كانط» «ت 1804م» بأنه فحص حرٌّ، أي غير مقيد بأي مذهب فلسفي، وهذا الفحص يرتكز على تطابق معاني العقل ومدركات الحس، ومنها ظهرت المدرسة النقدية «Criticism» التي ابتدعها كانط نفسه في كتابيه «نقد العقل الخالص» و«نقد العقل العلمي»، فنقد العقل الخالص امتحان قيمته من حيث انه يتوخى الحقيقة، فلا يوجد بالنسبة إليه معرفة مطلقة للحقيقة بذاتها، ونقد العقل العلمي فحص قيمته من حيث انه يدبر العمل، ويرى أن العلم ليس سوى مجال من مجالات المعرفة، بينما الفعل هو ميدان من ميادين الأخلاق.
ولكن يغلب على الأطروحات في وقتنا العربي الراهن تصنيف النقد إلى نقد موضوعي وآخر غير موضوعي.. فما رضينا به هو موضوعي وما هوغير ذلك يغدو غير موضوعي، وأزعم أن مثل هذا التصنيف غير موجود منهجياً، فهناك نقد ولا نقد، فما النقد الموضوعي إلا أحد ضروب النقد، وليس لزاماً على الناقد أن يكون موضوعياً، فهناك النقد الانطباعي حيث يدخل فيه البعد الشخصي موقع التحليل الأساسي، وثمة النقد التفسيري الذي يحلل النص بالتأثيرات المحيطة به والتي ولدته، وأيضاً النقد الوقوفي الذي يحاكم العمل على ضوء نموذج مثالي مسبق.. الخ.. وهناك النقد الشخصي، وهو الذي ترتعد له فرائصنا، وكأنه من المحرمات، فهو أحد أصناف النقد إذا تلافى الشتم، أما إذا وقع في السبِّ فهو هجاء وليس نقداً، والنقد الموضوعي هو الذي يدعي صاحبه الاستناد إلى منهج من القيم مستقل عن ذوقه وعواطفه.إذا أدركنا هذه الضروب من النقد، فربما نتسامح مع منتقدينا.. فمن حق الناقد أن تكون له ذائقته الخاصة وربما الغريبة في نقده الانطباعي أو الشخصي، فما الضير في أن يكتب ناقد عدم ارتياحه الشخصي، وغير الموضوعي، لفكرة مفكر أو قصيدة شاعر أو سلوك فرد، طالما أنه يعبر عما يختلج في نفسه من مشاعر صادقة منهجياً؟ بل من الممكن أن يكون في هذا النقد مدعاة للبحث عن الأفضل، المهم في النقد هو عدم الخلط بين مناهجه، فليس من الحصافة أن أطرح نقداً انطباعياً وأزعم أنه موضوعي، وليس من العدل أن أطرح نقداً شخصياً وأدعي أنه وقوفي.. عدا عن ذلك فلنفتح قلوبنا لكل أنواع النقد، فليس من طبيعة النقد أن يمتدح العمل المنقود، وليس من ضرورات النقد أن يفهم الناقد كل تلافيف النص المنقود، بل ان سوء الفهم هو طبيعة من طبيعات العمل النقدي كما حسن الفهم تماماً، فالنقد بكل أشكاله هو الكاشف الأساسي للعيوب وهو المحرض نحو الأجمل.. فلنفتح الأبواب لكل أنواع النقد، ولنتصالح مع منتقدينا!!

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved