Monday 23rd December,200211043العددالأثنين 19 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

بين الرجا والياس بين الرجا والياس
عبد الله الصالح العثيمين

متفائل.. والجرح أكبر من رنيم الساقية
متفائل جدا، رقيق الحاشية
لا يستتيم إلى قرار الهاوية
ما راعني في الأرض طوفان الرّدى
ماراعني أبداً عزيف الجن يأتي مُربدا
ما فتَّ في عضدي اصطراخ الريح في كل المدى
ما راعني ليلٌ تفجَّر بالمحن
ما راعني صمت الكفن
موت القرنفل فوق ناصية الزمن
ما راعني زحف الجراد وكل أسراب الشجن
ما دام نسغ الله يسري في الدجى
ما دام يجري كالندى
في الفجر يسقي الدالية
أوحت إلى هذه الأبيات الجميلة، التي تسلمتها قبل أربعة أيام من الأخ الكريم، الصديق مصطفى أحمد النجار، حاملة أريج حلب الشهباء، بموضوع هذه المقالة معنونة بما عنونت به من تعبير شعبي مشهور.
فالأبيات تعيد إلى ذاكرتي، التي تنحدر إلى مغيبها شيئاً فشيئاً، معالم أحداث عايشتها قرابة نصف قرن من الزمن. عندما كانت السنة العشرون من عمري قاب قوسين أو أدنى كانت مجريات تلك الأحداث تبعث على التفاؤل.
ولذلك غمرتني - كما غمرت الكثيرين من فتيان الأمة وفتياتها - آمال كبيرة في التحرر من هيمنة الاستعمار بجميع أشكاله، والتوحد في دولة تثبت مكانتها على المسرح العالمي.
في عام 1374هـ/1954م انطقت الرصاصة الأولى للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وهي الثورة التي قدَّمت أعظم تضحية حتى نال الشعب الجزائري الأبيّ استقلاله واستعاد هويته الوطنية.وبعد عام من انطلاقة رصاصة تلك الثورة المجيدة انعقد المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز في باندونج بإندونيسيا. واجتمع سماع دويّ الصوت العربي في ذلك المؤتمر مع صدى انتصارات بطولة الثوار الجزائريين ليخلق في نفس كل فتى عربي متطلع إلى تحقق آمال أمته ثقة بمستقبل زاهر. ولم يمض عام آخر الا وقد ترسخت تلك الثقة بانتصار صمود مصر العزيزة، مدعومة بأمتها العربية، أمام العدوان الثلاثي: الصهيوني - البريطاني - الفرنسي.
ولقد بلغت الآمال مداها الواسع عام 1378هـ/1958م عندما قامت الوحدة بين سوريا ومصر، وسقط حلف بغداد بزوال الحكم، الذي كان أحد أركانه، من تلك العاصمة. وكنت - وأنا واحد من أفراد جيلي المغمور حينئذاك بالآمال - ممن عبر عن مشاعره تجاه تلك الأحداث كلها، متفائلاً متحمساً.على أن الثورة العراقية انتكست بسيطرة الشيوعيين على مجريات الأمور في العراق، وارتكابهم أفظع الجرائم بحق غيرهم من أفراد الشعب، مؤيدين - مع الأسف الشديد بشعراء كبار كالجواهري والبياتي.
ومما زاد الطين بلة أن سارت الامور في دولة الوحدة الوليدة على غير ما كان يرام. وهذا ما أدى إلى انفصالها عام1961م. ومع حدوث تلك الانتكاسة في العراق، وفشل التجربة الأولى للوحدة، بقيت زمناً غير يائس أشيد بعوامل التفاؤل وأحاول تجاوز أسباب اليأس.
وكان من ذلك قولي في قصيدة عنوانها «فجر النصر»:


كفكف دموعك في محاجرها
فالفجر لن تغتاله الظُّلَمُ
والقلب لا ينسب إلى دمه
يأسٌ يكبِّله ولا سأمُ

وكان ختام تلك القصيدة:


يا للمنى والفجر في أُفُقي
متموِّج الإشراق محتدمُ
أرنو فأبصر في طلائعه
حمماً تفجِّر نارها حممُ
وثَّابة الخطوات زاحفة
للمجد.. للتحرير تقتحمُ
وأرى الحمى الدامي يعانقها
لثماً ويبسم للشهيد فمُ
والوحدة الكبرى يرفُّ لها
في كل ساحٍ حرَّة علمُ
ثم ماذا بعد ذلك؟

هبت على الأمة عواصف هوجاء جعلت أجواءها مكفهرة. فأصبح من الصعب كبح جماح جيوش اليأس في النفوس.
ولم يكن غريباً أن تبدأ قصيدتي، التي عنوانها «لا تسلني»، بهذه الأبيات:


هكذا دارت دواليب الفَلَكْ
واختفى النور بأستار الحلك
والمنى الخضر التي رفَّت على
شفة الأمس بها الدهر فتك
أيها الساري وأشواك الرَّدى
ملأت كل طريقٍ قد سلك
لا تسلني عن خفايا ألمي
إنما آلمني ما آلمك
الرؤى السوداء قَسْمٌ بيننا
والاسى المرُّ غذاء مشترك
والأحاسيس التي تغتالني
جُرِّدت أسيافها كي تقتلك

ولم يكن غريباً، أيضاً، أن تنتهي تلك القصيدة هكذا:


لا تسلني أيها الساري ففي
عارضي تبدو جراح المعترك
لا تسلني أين أخطو.. آن لي
في متاهات السرى أن أسألك
إن تكن تبصر ومضاً خافقاً
في جبين الأُفق فاحملني معك

وكانت كتابة القصيدة قبل ما يزيد على عشرين عاماً..وإذا كانت مشاعر كاتبها حينذاك بمثل ما عبرت عنه أبياتها فما مشاعره الآن وهو يرى ما حل بأمته، قادة وشعوباً، من ذل وإذلال؟
كم أتمنى لو وهبني الله شعور التفاؤل الذي أملى علي الأخ الكريم، الصديق مصطفى أحمد النجار، أبياته الجميلة التي افتتحت بها هذه المقالة.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved