لا شك أن الإسلام عقيدة وعبادة، لكنه ليس ذلك فحسب، إنه أيضاً أخلاق ومعاملة، وهذه العناصر تشكل بمجملها منظومة متكاملة يؤدي بعضها إلى البعض الآخر، فالعقيدة تتحقق من خلال العبادات والطاعات، وهذه بدورها تنعكس سلوكاً وأخلاقاً وتعاملات، وكل ذلك يشكل في المحصلة نمطاً من الحياة لها سماتها وخصائصها المميزة، وهو ما يعني ان الإسلام إضافة إلى بعده الديني هو أيضاً ثقافة وحضارة تتشكل أو تتبلور ملامحها من خلال تلك العلاقة التكاملية بين ما هو ديني وما هو دنيوي وفق ضوابط معينة تراعي مصالح وحقوق وواجبات الإنسان المسلم، بل والإنسان عموماً.
لكن المؤسف ان هذا البعد الحضاري أو الثقافي للدين، لا يبدو واضحاً وجلياً من خلال حياة المسلمين في علاقاتهم وتعاملاتهم سواء فيما بين بعضهم، أو فيما بينهم وبين الحضارات والثقافات الأخرى، وهو ما يجعل الحديث عن حضارة إسلامية مجرد كلام نظري لا يمكن لمسه على أرض الواقع، فالعبادات مثلاً والشعائر الدينية قد تتحول إلى مجرد عادات اجتماعية وطقوس شكلية مفرغة من أبعادها ومضامينها الحقيقية إذا لم تنعكس على شخصية المسلم في سلوكه وأخلاقه وتعامله، وهو ما يجعلنا نستعيد تلك المقولة الشهيرة للشيخ محمد عبده في مقارنة بين واقع المسلمين، وواقع الغرب: «وجدت هناك مسلمين بلا إسلام في إشارة إلى السلوكيات اليومية بينما هنا إسلام بلا مسلمين». وهذه بالتأكيد ليست نظرية، إنما هو وصف تقريبي للحال، ويكفي ان تخرج إلى الشارع لتلمس بوضوح ما يثبت تلك الرؤية، من خلال الكثير من المظاهر السلبية التي تكاد تشكل نمطاً سائداً للحياة اليومية، بدءاً من البصق في الطرقات والقاء المخلفات من نوافذ السيارات، وأساليب القيادة التي لا تحترم حقوق الآخرين، وليس انتهاء بحالات الغش، والكذب، وتكفير الناس بناء على مظهرهم الخارجي، وما لا يحصى من المظاهر السلبية التي نجدها في كل مكان، عدا ما يمكن وصفه بالفساد الإداري، وسواه.
إن الإسلام بالإضافة إلى كونه عبادة، هو بالتأكيد أيضاً دين حضارة، فأول آية نزلت من القرآن {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ الذي خّلّقّ}، والأمر بالقراءة حث على العلم والمعرفة، وعلى الاكتشاف، والبحث والتأمل.. القراءة إعادة صيغة مستمرة للعالم والأشياء، وتأسيس لرؤية جديدة، وفكر جديد، وهذا ما قام به الرسول الكريم عليه السلام، حيث أسس من خلال هذا الدين الحنيف حياة جديدة، تشتمل على كل القيم الأخلاقية والإنسانية، التي نزل بها كتاب الله تعالى، فقد كان خلقه عليه السلام القرآن، وانطلاقاً من هذا الخلق العظيم بدأ رسالته الخالدة، فقد قال عليه السلام «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وهو ما يبين الأهمية الكبيرة للجانب الأخلاقي، والإنساني في الدين، وهناك العديد من الآيات والأحاديث الشريفة بهذا المعنى، والتي تجسد حرص الرسول الكريم على صياغة شخصية إسلامية ترتبط بالواقع، وتتجسد من خلال الممارسة الفعلية، والسلوك اليومي، بعيداً عن التنظير المجرد والشعارات، فالدين الإسلامي قام على أنقاض العصبيات والقبليات وكل أشكال الانغلاق والتمحور حول الذات أو القبيلة باعتبارها مركز الكون، وفي ذلك كان تحرير للإنسان من قيود الرؤية المرتكزة على مصالح آنية أو أعراف اجتماعية تكرس التباين والاختلاف كهوية مغلقة أو منغلقة في وجه الآخر المختلف باعتباره نقيضاً.
لقد شكل الدين الإسلامي فضاء إنسانيا منفتحاً على قيم الخير والجمال، وهو ما كان نواة الحضارة الإسلامية متعددة الأعراق واللغات والتي مازالت تشكل أحد مصادر المعرفة الإنسانية.
لقد جاء الإسلام إلى الناس كافة، بمعنى انه دين عالمي، لا يرتبط بزمان ومكان محددين، ولا يختص بعرق أو فئة، وهذا يتطلب من المسلمين ان يكونوا منفتحين على العالم بحضاراته وثقافاته المختلفة، تماشياً مع جوهر هذا الدين واستجابة للعديد من الآيات والأحاديث التي تدعو إلى التعارف بين الشعوب وإلى التحاور والمجادلة بالتي هي أحسن، أي بالمنطق والفكر.
ولا شك ان الإسلام كدين وحضارة يمتلك المقومات التي تجعله قادراً على التحاور مع الحضارات الأخرى، والتأثير فيها، والتفاعل معها، إلا ان المشكلة ربما تكمن في ان الحديث عن حضارة إسلامية هو حديث نظري، فبينما يمكننا الحديث عن ثقافة غربية، واضحة السمات والملامح، ومجسدة فعليا على أرض الواقع.. لا نجد حضارتنا إلا في الماضي وفي الكتب، بينما واقعنا مشتت تماما بين كثير من التيارات المختلفة، ويعاني غياب الرؤية الواضحة.
لذلك ربما قبل الحديث عن «حوار الحضارات» يفترض ان نبدأ بحوار الذات وحوار الداخل، بهدف توطين القيم الإسلامية، بكل ما تحمله من مبادئ أخلاقية، وسلوكيات مهذبة، وفكر عملي وعلمي، ورؤية واقعية.. على أرض الواقع، وفي إطار هذا العصر الذي نعيشه.
ولكن ألا يبدو هذا الكلام أيضاً نظرياً، وبعيداً عن الواقع، وأقرب إلى أحلام اليقظة؟؟.
|