Monday 9th December,200211029العددالأثنين 5 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

دفق قلم دفق قلم
السهل الممتنع
عبدالرحمن صالح العشماوي

يعرِّف المفكرون السهل الممتنع بأنه «الذي يظن الإنسان إذا سمعه أو قرأه أو رآه أنه يحسن أن يصنع مثله أو أحسن منه، ولو جرَّب ذلك لما استطاع».
هنالك نصوص أدبية، شعرية كانت أم نثرية، وبحوث علمية مختلفة، ولوحات ورسومات فنية يظن كثير من الناس أنها سهلة قريبة المأخذ وأنه لامزيَّة فيها، ولا قيمة فنية تجعلها أفضل من غيرها، ولربما احتقروا ما فيها من الجمال الميسور، أو الإبداع السهل، بسبب هذه النظرة القاصرة إليها.
بل ربما وقف رجل متعلِّم مثقَّف أمام رجل أميِّ لا يحسن القراءة ولا الكتابة وهو يتحدَّث حديثاً سلساً جميلاً مرتب الافكار منتقى العبارات، فلا يعطي ما يقوله قيمةً في نفسه، ويظن أنه أقدر بسبب علمه وثقافته من هذا الأميّ، بينما يصاب بالعيِّ والحصَرَ إذا وقف مثل هذا الموقف، ولكم رأينا رجلاً متعلِّماً مثقَّفاً ورث منصباً بعد أبيه فوجد نفسه عاجزاً عما كان يظنه أمراً ميسوراً سهل التناول من الكلمات والمواقف التي كان يقولها أبوه أو يقفها.
خطرت ببالي هذه المعاني، وأنا أتصفَّح ديوان أبي العتاهية هذه الأيَّام، حيث تتجلَّى فيه عبارة «السهل الممتنع» بصورة جليَّة لا غبار عليها، مع أننا ربما نسمع أو نقرأ لناقدٍ معاصرٍ منتفخ الأوداج بغرورٍ في نفسه بثقافته المعاصرة ينال من هذه السهولة عند أبي العتاهية، دون مراعاةٍ لهذا المعنى الدقيق الذي تدل عليه كلمة «السهل الممتنع».
أبو العتاهية كان ذا مقدرة شعرية عجيبة، يجري الشعر على لسانه جريان الماء الصافي من نَبْعٍ جبلي لا يتوقف، حتى قيل عنه «كأنَّما يأخذ الشعر من كمه» أي من جيبه، لأن الكُمَّ في اللغة تعني الجيب، ويروي عنه أحد أصدقائه أنه كان في سفرٍ مع أبي العتاهية وكانوا يسيرون مُدلجين، يركبون مَتْن الظلام، يقول: فاقتربنا من بغداد قبيل الفجر، وقد انفرج ثغر الأفق الشرقي عن بسمةٍ لا تكاد تظهر من النور، فالتفت إليَّ أبوالعتاهية قائلاً: هل رأيتَ الفجر لاحا؟، قلت له: نعم، فقال: هل سمعت الديك صاحا؟ قلت له: نعم، قال: «إنَّّما بكَّى على المغترِّ بالدنيا وناحا»، يقول: فوالله ما علمت أنَّ أبا العتاهية يقول شعراً إلاَّ حينما ذكر البيت الثاني.
وهذه المقدرة لا يملكها كل شاعر أو أديب، وإنما هي موهبةٌ يقدِّرها من يعرفون قيمة المواهب.
انظروا ايها الأحبة معي إلى قول أبي العتاهية.
«أحسن الله بنا أنَّ الخطايا لا تفوحُ».
وتأمَّلوا هذا اللفظ السهل، وهذا الأسلوب السلس، مع هذه اللَّقْطَة الفنَّية الجميلة ذات المعنى المهم، وعند ذلك استشعروا قيمة هذه النعمة العظيمة التي منَّ الله بها علينا حيث لم يجعل خطايا بني آدم ذات روائح تفوح، وإلاَّ لأفسدت أجواء الكون كلِّه.
نعم.. لقد أحسن الله بنا أن خطايانا لا تفوح، فنحمده على ذلك ونشكره، بل لقد أوصانا الله سبحانه وتعالى بعدم المجاهرة بما قد نقع فيه من الأخطاء والذنوب في حياتنا، بل نستر ذلك ونتوب الى الله ونستغفره، فإن الله غفور توَّاب رحيم.
هكذا يرسم ابو العتاهية لوحة شعرية سهلةً، لكنها من «السهل الممتنع»، الذي لا يقدر عليه إلا من أنعم الله عليهم بالموهبة.
إشارة
يقول أبو العتاهية:


لدواعي الخير والشرِّ دُنوٌّ ونزوحُ
نُحْ على نفسك يا مسكين إن كنت تنوحُ

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved