هذا الكتاب: عرف الكائن البشري التفكير خلال مختلف مراحل نشاطه وحياته، واندهش من كينونته ككائن، ثم حاول تأطيرها في أطر وتحديدات معرفية وفلسفية، كما حاول ترتيب أشياء الكون من حوله، فاهتم بالجزئيات، ورسم الحدود، وانشغل بالتفاصيل ودقائق الأمور، وامتد به التفكير نحو الميتافيزيقا، وسعى إلى تشكيل كليات داخل مختلف ميادين المعرفة، كان وضع المفاهيم وبناؤها واستثمارها موضوع بحث لا يكل في حقول نشاطه الفكري والمعرفي لذلك تعددت وسائط المعرفة وتنوعت أشكالها، وصار التفكير والتفسير بواسطة الملكات يبنى على تشكيل المفاهيم، سواء كان التشكيل بواسطة التجريدة أم بواسطة التعميم، ثم شمل التشكيل بواسطة الحكم ما يخص استعمالات المفاهيم واستثمارها، فأضحت صناعة المفاهيم الجديدة شغل الفلسفة والفن ومختلف العلوم وقد شهدت مختلف الحضارات الانسانية، قديمها وحديثها عمليات تفاعل وتبادل واقتراض في ما بينها بدون حواجز أو شروط وتعددت وسائط الانتقال المعرفي على مختلف الصعد، حيث جرت عمليات أقلمة المفاهيم وانتقالاتها في الفلسفات والعلوم، ثم إعادة أقلمتها في التربة المعرفية عند توافر الشروط الملائمة، وكانت الأرض لا تكف عن حركاتها عبر الأقاليم، مغيرة بذلك الأسماء وتواقيع أصحابها من الشيخ والحكيم إلى المنطقي والفيلسوف فتغيرت «الحكمة» كثيراً، كما تغيرت «الفلسفة» ونشأت فلسفات متعددة بتعدد الأقاليم التاريخية والجغرافية والبشرية تقاطعت في حقول واختلفت في أخرى فتعددت صورها وظهرت عبر تمثلات جماعية، أو تصورات عن العالم خلقتها القوى الحية التاريخية والروحية للشعوب والأمم، وحين انزاح التفكير الانساني نحو الميتافيزيقا، تعددت ضروبه المادية والمثالية، ونشأت مذهبيات الميتافيزيقا وتمظهراتها العقلانية والتجريبية والوضعية وسواها، وكانت إحالية وارجاعية وتقابلية تفاضلية في كل ما ذهبت إليه، لذلك حصرت التفكير البشري في متاهات الواحد والأول والأصل والحقيقة، ثم الكلي والجوهري واللاهوتي والشمولي والإيديولوجي..، ونشأت عن ذلك تمركزات كثيرة على الذات، وعلى العقل وعلى اللغة، وعلى العرق وغيرها، اعتمدت جميعها منطق الالغاء والاقصاء والتهميش وغيبت الاختلاف والتعدد والتنوع، ووظفت التقنية والأداتية والإرادية كمفردات للهيمنة على الانسان وشرطه الانساني والتاريخي، وكمثبطات لطاقاته وقدراته في عصر ما عرف بالحداثة وما بعدها، وتعرضت الميتافيزيقا ومرتكزاتها لنقد واسع، ولضربات هزت أنظمتها، وعملت التفكيكيات والحفريات على خلخلة تقابلاتها التفاضلية، ومساءلة بداهاتها واحالاتها، وعنى ذلك رد الاعتبار للاختلاف والتنوع والتعدد في مواضيع كثيرة.تلك كانت ملامح حملها هذا الكتاب وفصل متونها في ثلاثة أجزاء، عبر ما أسماه المؤلف «محاولة البحث عن حيز صغير، لا ينتفي فيه الآخر، لا يصبح مقصياً أو خارجياً، إنما مختلفاً ومؤتلفاً»، حيث يتناول الكتاب المفاهيم وأقلمتها في التربة المعرفية داخل أقاليمنا، من منطلق التفاعل الحضاري الخلاق، وحق كل حضارة في وضع وتوظيف وأقلمة المفاهيم الانسانية الفلسفية والعلمية والفنية.
|