للعيد في القرية شخصية مستقلَّة ذات سماتٍ تميِّزه عن غصونه الأخرى التي تمتد في المدن والحواضر الكبرى، لأن العيد في القرية يأتي متحرِّراً من بعض القيود الظاهرة والخفيَّة التي تفرضها أساليب المدنية «المصنوعة» بما فيها من تعقيداتٍ اجتماعيةٍ تراعى فيها بعض «الضوابط» المنبثقة من الذوق المتحضِّر الذي يحلو له ولأصحابه أنْ يُهَنْدِسُوا بشكلٍ مبالغٍ فيه أحياناً طريقة زياراتهم لبعضهم، ويراعوا بعض القوانين المتعارف عليها في اللباس، وطريقة الكلام والجلوس وغيرها من الجوانب المتعلِّقة بمشروعات العيد ومأكولاته، وأواني حَلْوَياتِه.
العيد في القرية يزورها على طريقة أهلها جميل الملابس من غير تكلُّف، ضاحك الثغر، منبسط الأسارير، يبدأ مع رجال القرية وأطفالها بزيارة بيوتها بيتاً بيتاً، دون خشيةٍ من إثقالٍ على أحد، لأن بيوت القرية تشرع أبوابها من قبل صلاة الفجر يوم العيد، وتبعث دُخان بخورها في كلِّ اتجاه، وتضع أطباق التمر والسَّمْن، وأقراص العسل على موائدها دون أدنى كُلْفةٍ تذهب بجمال التلقائية، وبشاشة الاستقبال الطبيعي المنطلق بدون قيودٍ في الصوت والصورة تقيِّده، وتذهب بتلقائيته.
العيد في القرية، يسرح ويمرح مع أهلها ويشدُّ على خاصرته الجنبيَّة، ويشاركهم الأحاديث الودِّية و«علوم الرجال» بأساليبها المنتقاة وأخبارها المنوَّعة.
مصلَّى العيد في القرية واحد، ساحةٌ مكشوفة للشمس والهواء، وإمام صلاتها واحد، حتى الكتاب الذي يقرأ منه خطبة العيد كتابٌ واحد لم يتغيَّر منذ سنوات طوال، عنوانه «الحكمة البالغة»، أصبحت له مع الإمام علاقة صداقة، من الصعب التخلُّص منها، لأنها علاقة وثيقة متوارثة فإمام القرية في حاضرها، هو ابن إمامها في ماضيها، والكتاب هو الكتاب «ليس العيد من لبس الجديد، ولكن العيد من خاف يوم الوعيد...»، كلمات تصبح جزءاً من تكوين أبناء القرية الثقافي المرتبط بالعيد، حتى إنَّ أكثرهم يكاد يحفظ خطبتيْ العيد عن ظهر قلب.
الزيارة في العيد لا تختصُّ بأحدٍ دون أحد، من طرف القرية إلى طرفها، حتى تلك العجوز التي تعيش لوحدها حيث لا أبناء لها ولا بنات، ولا إخوة ولا أخوات، تضع ما تيسَّر لها من تمر العيد وسمنه وعسله في مكان بارز ويمر أهل القرية الزائرون، ويرفعون أصواتهم بالسلام عليها، ثم ينالون من طعامها ما يريدون، وينطلقون إلى منزلٍ آخر، وهكذا حتى تتم زيارة بيوت القرية كلِّها، وقد تكوَّن عددٌ غير قليل من رجال القرية وأطفالها لهذا الغرض، ويظهر أثر هذا التآلف حتى في عبارات التهنئة التي يقولها الجميع للجميع «من العايدين»، فيكون الرد من العايدين الفايزين، أو، الله يعيدكم من السالمين، ثم يكون الوداع بكلمة «عاد عيدكم» ولربما أتبعوها بقولهم «وكبر صغيركم»، دعوة للصغير بأن يكبر، وهي دعوة ذات معنىً جميل، فهي دعوةٌ لهم أن يكبر صغيرهم في ظل أسرتهم المستقرَّة السعيدة.
أين عيد القرية؟؟
كم من قرية في بلادنا فقدت ذلك العيد القرويَّ الجميل، وأصبحت تعاني من وحشةٍ في العيد بعدما كان مصدر أنسها وسعادتها.
تكاد طرقات القرية، وبيوتها القديمة، ومزارعها، تحلف لنا يميناً صادقة أنها تعاني من فقدها لعيدها الذي تعرفه منذ عشرات السنين.
فمن الذي يحقق للقرية ما تريد من عيدها؟
إشارة:
إنه عيدنا وعيد رفاقي عيد حَلْوَى وذكرياتٍٍ غنيَّهْ كم طلبنا من ربَّة البيت حَلْوى ونهبنا إذا استطعنا البقيَّهْ |
|