Thursday 5th December,200211052العددالخميس 1 ,شوال 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

من الشعر الجاهلي (2/2) من الشعر الجاهلي (2/2)
عرض وتحليل لعينية الحادرة
د. علي عبدالله إبراهيم

ولعلك تكون قد لاحظت الآن كيف استطاع هذا الشاعر أن يربط ببراعة بين الجزء الأول من القصيدة الذي أفرده للكلام عن سميّة، وهذا الجزء الذي استهله بمخاطبتها، فهو موجه لها، وهي المعنية به دون غيرها من الناس، ولعلك تكون قد لاحظت أيضاً أن افتخاره بقومه لم يكن لمجرد الافتخار بالأهل والعشيرة، بل كان يرمي من ورائه إلى شيء آخر، يدلنا على ذلك أنه استخذم في مستهله صيغةً تكشف عادةً عن الانفعال أو عن الاستغراب والتعجب، وذلك قوله: «أسميَّ ويحك»، وهذا الأمرُ يحملنا إلى الاعتقاد بأنّ علاقة الشاعر بمحبوبته قد أصابها شيء من الضعف أو الفتور، ولعلنا لا نذهب بعيداً إن زعمنا أنّ هذا الفتور ربّما كان بسبب وشاية وصلت إليها بطريقة أو بأخرى تطعن في شرف الحادرة وكرامته، أو في قدرته على الوفاء والاخلاص مع من يحب ويَعْشَق، ذلك لأن الشاعر قد نفى بشكل حازم وقاطع أن يكون من الذين يغدرون ويخونون العهود والمواثيق.. فها هو يتحداها أن تكون العرب قد جرّبت عليه، أو على أي شخص من قبيلته، شيئاً من ذلك، وكان من عادة العرب في الجاهلية إذا غدر الرجل بخصمه رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليعرفه الناس. لم يكتفِ الشاعر بنفي سُبّة الغدر عنه وعن أهله وعشيرته، بل ذهب إلى حصر وعد الصّفات التي تميزهم عن سائر القبائل العربية، وتضعهم في منزله لا يطمع فيها غيرهم، ولعله يُريد أن يقول لهذه الفتاة في نهاية الأمر إنه رجلٌ متميز، وإنه قمينٌ وجديرٌ بعطفها وحبها، ولو تمادت هي في هجره والانصراف عنه تكون قد ظلمته أو ارتكبت خطأً كبيراً في حقه.
يواصل الشاعر بعد ذلك افتخاره بالأشخاص الذين تربطه بهم علاقات وصلات حميمة، وظل في أثناء ذلك يردد اسم محبوبته بطريقة قد تكون أقرب إلى أسلوب المناجاة، فهي لا تزال المعنية بهذا الأمر.
ولكنه لا يفتخر هذه المرة بأبناء لُحْمته الذين يلونه، بل راح يباهيها بفكرة أن أصحابه وسمّاره نفرٌ من نوع خاص، ولأنهم كذلك فهو يخصُّهم دائماً بكرمه وفضله؛ ويقدم لهم أجود أنواع الطعام والشراب ولو نزلوا بداره في وقت السَّحر، وصف مجلس عبثهم ولهوهم، ووصف الحالات التي يكونون عليها بطريقة تمكّن المتلقي من معرفة ما كان يدور في مجالس الجاهليين؛ وذلك قول:


فسُميُّ ما يُدريك أن رُبَ فتيةٍ
باكرتُ لذّتهم بأَدْكَنَ مُترع
محمرةٍ عقب الصَّبوح عيونُهم
بمرىً هناك من الحياة ومسمع
متبطِّحين على الكنيف كأنهم
يبكون حول جنازةٍ لم تُرْفَعِ
بكروا عليّ بُسحْرَةٍ فصبحتُهم
من عاتقٍ كدم الغزال مُشَعْشَعِ
ومُعَرَّضٍ تغلى المراجلُ تحته
عجّلتُ طبخته لرهطٍ جُوَّعِ
ولديَّ أشْعَثُ باسطٌ ليمينه
قسماً لقد أنضجت لم يتورَّع

ولما كانت الناقة تلعب دوراً شديد الخطر في حياة البدو مما حمل شعراءهم على الاهتمام والاحتفال بها، ودفعهم إلى أن يفردوا لها مساحات واسعاتٍ في أشعارهم، ويتفننوا في وصفها ونعتها بالخفة والسرعة تارةً، وبالقوة والقدرة على تجشّم الأسفار وتحمّل المخاطر تارة أخرى، لمّا كان ذلك كذلك فقد وصف الحادرة ناقته وأجاد الوصف: وذلك بعد أن تمكّن من خلق جوٍّ مناسب، وظرف يليق بهذا الأمر، فوصفه للناقة في هذا الجزء من القصيدة على وجه الخصوص يدخل في باب التباهي والافتخار اللذين يسيطران على جوِّ القصيدة العام، فبعد أن أخبر سمية بأنه رجل متميز، وأنه ينتمي إلى قوم جديرين بالاحترام، وأن أصحابه كذلك، أراد أن يجذب انتباهها هنا إلى التأمل في شيءً يمتلكه هو خليقٍ بالاشادة والاحترام هو الآخر، هذا الشيء هو هذه الناقة التي من صفاتها كذا وكذا.
بدأ الحادرة وصف ناقته من حيث انتهى وصفه لأصحابه..
تخلَّص من الكلام عن السُّمّار إلى الكلام عن الناقة بطريقة لا يقدر عليها إلا شاعر مجيد ومتمرس. فقد جره وصفه لأصحابه إلى القول بأنهم مُسَهَّدون متعبون قد أخذ منهم الإرهاق والإعياء مأخذاً بعيداً بعد أن أنفقوا ليلهم كلَّه في اللهو دون أن ينالوا حظاً من النوم، فما كان أمامه سوى أن يدفع بهم أو يحثهم لامتطاء ظهور هذه النّوق المجهدة الضامرة التي أعياها طول السفر، وذلك حتى يتمكنوا من متابعة سيرهم ومواصلة الرحلة، قال في هذا المعني:


ومُسَهِّدين من الكَلالِ بعثتُهم
بعد الكلل إلى سَوَاهِمَ ضُلَّعِ
أودى السِّفارُ برمِّها فتخالها
هِيماً مُقطَّعةً حبالُ الأَذرُع
تخدُ الفيافيَ بالرِّجال وكلُّها
يعدو بمُنخَرِقِ القميص سَمَيْدَعِ
ومَطيّةٍ حمَّلْتُ رحْلَ مطيّةً
حَرَجٍ تُنَمّ من العِثارِ بدَعْدَع
وتَقِى إذا مَسَّت مناسِمُها الحصى
وَجَعاً وإنْ تُزْجَرْ به تتَرفَّع

وملخّص معنى هذه الأبيات أن الرّجل قد دفع بأصحابه المجهدين إلى هذه الإبل السّواهم الضامرة من شدة التعب والتي تشتكي أيديها من الضلع. وقد ذهبت كثرة الأسفار بلحومها وشحومها تشبه تلك التي أصابها الهُيام.. هذا الدواء الذي يصيب الإبل فيجعلها تكثر من شرب الماء فلا تروى؛ فهو داءٌ يشبه مرض «الحمَّى» فإذا أصاب الإبل ذلك المرض فُصد لها عرق لتستريح. ومن صفات هذه الإبل أنها تجوب القفار والفيافي، وعلى ظهورها هؤلاء النّفر الموصوفون بالوسامة والشجاعة. وذهب شاعرنا إلى القول بأنه كلما أتعب ناقةً وأضناها حمل رحلها على غيرها؛ وإذا حدث أن عثرت تلك الناقة قال لها: دَعْ دَعْ، وهي كلمة تُقال للعاثر لينهض ويرتفع، أما إذا أصاب خفيّ الناقة الوَقْيُ أو الحفا فسوف تتوجّع بيد أنها سرعان ما ترتفع في سيرها وتسرع فيه كلما تم زجرها بهذه العبارة «دَعْ دَعْ».
ولمّا كانت ناقة الحادرة كذلك، وكان هو رجلاً شجاعاً لا يعرف الخوفُ طريقاً إلى فؤاده لم يكن غريباً أن يُنيخ ناقته ليلاً في أماكن يتحاشى غيره النزول فيها في ذلك الوقت لأن المخاطر والأهوال تحفُّها وتحيط بها من كل جانب، ومن الاشارات التي تجعل ادعاءه هذا مقبولاً أنه لم يدّع عدم المبالاة بما قد يحدث له عند نزوله وإقامته في مكانٍ مَخُوف، بل ذهب إلى القول بأنه يظلُّ متأهباً، وربّما كان في غاية الحرص حتى لا يصاب بأذى، إلى أن يغادر ذلك المكان بسلام، و إن غلب عليه النعاس توسد ذراعه الذي من صفاته أنه كثير اللحم، ولم تمتلئْ عروقه بالدم كما تمتلئُ عروق يد الشيخ، ولعله من الواضح أن في توسد الذراع ساعة النوم دليلاً على الحذر، وترقب المخاطر.
وفي البيت الأخير من هذه القصيدة يصف الشاعر ساعده حين يرفعه من تحت رأسه بعد أن يكون قد غشى النوم عينيه لبعض الوقت، فيكون، عندئذ، مُحمرَّاً وفيه من الفتور والخدر ما يجعله يشعر وكأنه قد بُتر أو فصل من سائر أعضاء جسده، ولعله يعبّر بذلك عما يغوص في لا وعيه من الفتور الذي أصاب علاقته بسُميّة. حشد الحادرة هذه المعاني في قوله:


ومُناخِ غيرِ تئيّةٍ عرَّستُه
قَمِنٍ من الحِدْثان نابي المضجعِ
عَرَّستُه ووسادُ رأسي ساعدٌ
خاظي البَضيعِ عروقُه لم تَدْسَعِ
فرفعتُ عنه وهو أحمرُ فاترٌ
قد بان منّى غير أنْ لم يُقطعِ

نخلصُ مما تقدّم إلى القول بأنّ المحور الذي دارت عليه القصيدة المذكورة هو هذه الفتاة التي تُدعى «سميّة»، فقد تكلّم عنها الشاعر في الأبيات الأولى من القصيدة، وكشف لنا عن طبيعة علاقته بها، ثمَّ ظلَّ يُردّد اسمها ويكرره في تضاعيف افتخاره الذي اتخذ أنماطاً متباينة على النحو الذي بيَّناه، ونخلص أيضاً إلى أن المعنى الكامن في البيت الأخير يعكس، بصورة أو بأخرى، إحساس الشّاعر وشعوره الذي عبّر عنه في مطلع القصيدة، فإن كان ساعده قد بان عنه وانقطع فلا غرْوَ في ذلك ولا عجب، فقد باتت سُميّة من قبل وارتحلت، ومن ثَمَّ غلبته وصيرته سَبْياً لها.
ولعلنا نكون قد أصبنا إن زعمنا في نهاية هذا التحليل أنّ جودة هذه القصيدة تكمن في عدة أشياء؛ منها هذا التلاحم أو التماسك بين أجزائها المذكورة.. فكل جزء منها يتعلق بالذي يسبقه، ويأخذ برقابه. ومنها أيضا تمكن الشاعر ونجاحه في انتقاء ألفاظ عذبة سهلة ليس فيها شيء من الايغال والتوعّر.
ولعله من المناسب ان نضيف هنا أن عينية الحادرة كشفت لنا جانبا من المعاني الأخلاقية أو القيم التي كان يقوم عليها المجتمع الجاهلي. وطبيعي ان يكون الأمر كذلك لأن الشعر ديوان العرب الذي سجلوا فيه كل ما يتصل بأخبارهم وأيامهم، ويتعلق بأنسابهم وعاداتهم وتقاليدهم. فمن عاداتهم أنهم كانوا إذا غدر فيهم رجل رفعوا لواء يكشف عنه ويدل عليه في الأماكن التي يجتمع فيها الناس ويلتقون. وكانوا إذا طعن منهم الرجل واحداً من خصومه ترك رمحه في جسده ثم قال له: أنا ابن فلان. وكان الواحد منهم يقول لناقته إذا عثرت: دَعْ دَعْ لترتفع وتواصل سيرها.
ومن عاداتهم أيضا أنّ الرّجال كانوا يلتفون حول الجنازة وقد يبكون ويصرخون.
ومن المعاني التي تتصل بأخلاق الناس وسلوكهم والتي سجلها الشاعر في هذه القصيدة أن العرب كانت تحارب الغدر والخيانة، وكانت تندد وتشهِّر بكل من يصدر منه سلوك من هذا النوع. ولذلك كان من أفضل صفات الجاهليين أنهم كانوا لا يريبون حلفاءهم، ولا يغدرون بهم؛ وكانوا يجودون بأفاضل أموالهم وأحسنها وقاية لأعراضهم وحماية لها.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved