سأروي لكم القصّة التالية:
والد يحب أولاده لكنه صديق لابنه الذي كما قال الراوي يبلغ من العمر ستة عشر عاما فارس حذق مازح يخدم والده في رحلات الصيد ويشبع والده بكل معاني الرجال المرجوة. وقليل مثل ذلك الفتى الذي يتمنى الكل أن يصير أبناؤهم مثله. فذات يوم ربيع فيه أمواج الصيد لاطمة على السهول والجبال قال والده سأذهب أنا وأنت إلى الجبل الفلاني لنصيد (بدناً) معروف البدن وهو عميد الضبا وكبيرهم لكي نحتفل به ليلة الربيع في منازلنا مع بقية جماعتنا فوافق الفارس الملهم، ووالده يزهو طربا لابنه الذي يسمونه القبيلة (بعقيدها) والكل يحب هذا الفتى، النساء والصغار والكبار وحتى الخيل من الحيوان!!! فلما دنو من الجبل والوقت بعد العصر الأخير قبل غياب الشمس بنصف ساعة، رسم والد الفارس خطه بينه وبين ابنه، فقال لابنه أنت تذهب بفرسك من وراء الجبل وإذا رأتك البدون ستصعد الجبل باتجاهي وسوف تطل علينا من رأس الجبل مع الغروب أرى رؤوسها وتكون يانعة للبندق والصيد، فوافق ابنه الفارس!!! وما إن ظهر لوالده سواد الشعر من رأس الجبل أطلق عياره الناري من بندقيته باتجاه ذلك السواد الذي برأس الجبل، فغربت الشمس وصار والد الفارس ينتظر ابنه ينزل عليه من رأس الجبل معلناً بصيد البدن!!!، فلم يتضح له من ابنه صوت ولاجسد، فأحس والده ان ابنه ربما خانت به فرسه ووقع أرضا، فراح مسرعا يتعقب طريق ابنه، ولو أنه واثق ان ابنه فارس ليس لأول مرة يشاركه الصيد في الجبال والسهول، فصار يتخبط والده بالظلام، فوجد الفرس موقوفة ومرسونة بصخرة، فتركها وواصل إلى رأس الجبل، تفاجأ بابنه ملقى على الأرض والدماء قد خرجت من جسده، فقلب ابنه على ظهره، فوجده قد فارق الحياة، والسبب الطلق الناري الذي أطلقه على رأس الجبل يحسبه بدن صيد، ولم يعلم أنه شعر رأس ابنه رحمه الله، فأناب إلى ربه وحزن، وسحب ابنه إلى أسفل الجبل ووضعه على فرسه التي هي الأخرى حزنت على فارسها، وعادا بالحزن، وتوقف والده وترك ابنه والفرس تحت شجرة، ودخل على أمه كاتما الحزن في قلبه، وفرحوا أهله بوصوله وسألوا عن الفارس.
فقال أبقيت ابني الفارس مع صيدة اصطدتها لم اصطد مثلها ولن اصطاد مثلها في حياتي. فرحت أم الفارس وقالت ماهي قال إنها صيدة لا تطبخ إلا بقدر لم يمر عليه أحزان، فبهتت والدة الفارس، كيف؟!!! قال هيّا اذهبي بسرعة إلى منازل العرب كلها واحداً واحداً. واطلبي منهم قدر لم يمر على مالكيه حزن، فأطاعت زوجها وصارت تطوف على بيوت العرب تطلب قدراً لم يمر على مالكيه أي أحزان، فكل من طلبت منهم رفضوا وقالوا مات لنا فلان، حتى رجعت إلى زوجها بعد معاناة سؤال بخفي حنين!!! قالت والله يابو فلان لم أجد قدرا بدون أحزان، كل العرب مر عليهم أحزان الغالبين عليهم، وقدورهم حزينة!!! قال ماتوا الذين مات لهم أموات، قالت بكل ذهول وتعجب (أعوذ بالله يابو فلان) وش الكلام الغريب اللي ماهقيتك تبديه؟؟؟
قال لوالده الفارس أجل قلبي وقلبك وقدورنا أصابها الحزن بموت الفارس ابني وابنك، فصاحت النساء صباح الحزن الحقيقي على الفارس البارع الطيب المتواضع، الذي تأمل فيه القبيلة كل نصر وحماية لها، واحتدم الخطب، وصار المصاب جللاً، ودفن الفارس ورحلت العرب عن مقطانها الربيعي الخصب، وماهي إلا أسابيع ووالده يبكي بكاء الحزين الذي فقد ابنه صديقه الغالي المطيع، الذي لم يقل لوالده يوما، لا. لا. ومن شدة الفراق والحزن مرض والده مرضا عضالا لكونه السبب بموت غاليه، ثم توفي والده ودفن بجانب ابنه.
وصارت القبيلة بالاحزان مدفونة.. والعياذ بالله.
نعم، رسم والده خطة هونت المصيبة على ذويه بعض الشيء بدون يأس وقنوط وعويل وصياح مذهل من والده المفجوع بغاليه، فصارت والدته واخوانه وإخواته، وقبيلته، يرددون مقولة نحزن على ابننا الفارس وإذا تذكرنا خطة والدنا رحمهم الله جميعاً، هانت علينا المصيبة، وأدركنا ان الناس كلهم محزونون لكنهم، في رحمة النسيان منغمسون.. فلابد للدنيا من أكدار، ولابد للإنسان من يوم أسود وأيام حالكة السواد، فمن أناب إلى خالقه وصبر، أعانه الله وطوق على قلبه، ورزقه من اليقين مايهون عليه مصائب الدنيا، ومن قنط ويأس، وغضب، تجددت عليه الأحزان وصار من حزن إلى حزن، والله من وراء القصد.
|