الهامش الدعائي لأي مسؤول قضية ليس فيها نظر، والخطأ الأكبر ان يتسع الهامش، أو ان تتسع الإحالة إليه، بحيث تحال كل أفعال الزعماء المتميزة إلى ذلك الهامش الدعائي.
ومثلما ان الخبطات الصحفية تحرك الركود، وتشد الانتباه وتؤتي أكلها، متى كانت متقنة ومحسوبة فإن ابتكار الإجراءات وأساليب المعالجة تفعل فعل الخبطات الصحفية المسددة.
وبعض القادة النابهين يعولون على المبادرات المفاجئة غير عابئين بما تحدثه من ارتباك في تلقيها واستكناهها، وجل اهتمامهم ان تعطي عائداً أفضل وأسرع. فالمواطن حين لا يخطر على باله أي فعل استثنائي له مقاصده النبيلة وغاياته الحميدة، ثم يفاجأ به، ترتبك آلياته، وقد تأخذه الاتكالية، فلا يكلف نفسه عناء القراءة وفق قوانين الحدث، متخذاً إحالة كل جديد من الأفعال أو الإجراءات إلى الهامش الدعائي ديدنه، وبهذه الإحالة يفرغ من ملاحقة الأحداث وتقويمها. ولأننا لسنا بدعاً في مجمل سياقاتنا فإن تعدد القراءات لأي حدث مثير متوقع ومشروع، ومن واجبنا امتلاك الثقة وتوقع أي قراءة. فالمتميزون هم الذين يشغلون الرأي العام، ويربكون المشاهد، ولكن القارئ الذي يفصل الحدث عن سياقه وأنساقه يقع في الابتسار المخل بالمصداقية. والمبادرة الذكية تتطلب قراءة ذكية، ليحصل التكافؤ ولن تستدرجني قراءات المبادرات والأحداث وقوانين اللعب الكبيرة والصغيرة وضرب الأمثال، فالأمر من الوضوح بحيث لايتطلب مزيداً من التمحك. وما حداني إلى تلك المداخل إلا طغيان القراءات المتسطحة أو المشبوهة، والتهافت عليها. ومما لا شك فيه أن القادة لهم حساباتهم وتطلعاتهم ونواياهم وأهدافهم، فليس هناك عمل لا تكون وراءه أهداف خاصة أو عامة، وليس هناك لعبة إلا ولها قانونها، ومن تصور الأمور بمعزل عن مقاصدها وقوانيها فوَّت على نفسه أشياء كثيرة، والقراءات الخاطئة والإشاعات المغرضة سمة المشهد السياسي.
لقد اشتعلت في كافة الأوساط المحلية المبادرة الإنسانية للأمير (عبدالله بن عبدالعزيز)، ولما يزل الناس يدوكون ليلهم في تقويم هذا الحدث، فالأمير عبدالله اخترق وبدون سابقة معاصرة فضاءات المعوزين من فقراء وعجزة ومعوقين وأيتام، على سنن العسس الإسلامي، ولم يتسلل إليها على حين غفلة من الرقباء وإن باغت ذويها وفاجأ حاشيته، بل أعلنها على أوسع نطاق، ولم يتردد في طرحها أمام الملأ. ولقد حرصت كغيري على مشاهدة الحدث، وتمنيت لو أن الإعلام عرض الجولة بكل تفاصيلها، ولم يكتف باللمحة الإخبارية. وبعد المتابعة انتصبت أمامي عدة قراءات يحتملها تأويل الحدث، ولكن الحق لايتعدد، واستمعت إلى عدة رؤى. وأبحت لنفسي استعراضها، فمن حق كل مواطن أن يموضع قادته، وأن يقرأهم وفق سياقاتهم وسوابقهم، إذ هم في النهاية بشر، يجتهدون، وقد لايحققون ما يريدون من خير. وتساءلت في تلك الأجواء المشحونة بالتساؤلات: لماذا اختار الأمير عبدالله لجولته الوقت والمكان والشريحة؟ ولماذا أعطى لوسائل الإعلام كامل الحرية في المتابعة والتركيز على المناظر المؤلمة؟ ولماذا ذرع الأزقة جيئة وذهابا، واستمع إلى التأوهات والتذمرات، وأذن لمن حوله ان يتأمل تلك الأوضاع؟ أيريد الحسم أم المحاصرة أم تجديد الآلية أم إدانة الطرف الآخر من مسؤولين واثرياء؟ كل ذلك وارد ومحتمل.ويقيني ان الإعلام لو فعلها وحده لكان موضع تقدير الجميع، ولكن أما وقد فعلها الرجل الثاني في الدولة وبمباركة من الرجل الأول في سياق (الشفافية) و(الباب المفتوح) الذي يدعو إليهما فإن الأمر له ما بعده، وإن قضية الفقر خرجت من إطار الممارسة الروتينية إلى فعل آخر، ومن حق أي متابع ان يتساءل، وأن يلح في التساؤل. ماذا يريد من هذه الخبطة الإعلامية؟ ولماذا أراد لنفسه ان يكون شاهداً عدلاً، يسبق أصحابه في اقتحام المغارات، متلطفاً للفقراء والمقعدين والأطفال، يخرج من بيت إلى بيت، ومن حي إلى حي، إن حدثاً كهذا يمتلك من فضاءات الدلالة مايجعل لكل قارئ رؤيته، ولأنني مواطن، أحس بمسؤوليتي إزاء الإجراءات التي يبادر إليها رجل مثل عبدالله بن عبدالعزيز، فإنني سأترك لنفسي كامل الحرية في قراءة الحدث وفق رؤيتي، وليس شرطاً ان تصيب المحز، وسوف لاأتردد في سماع القراءات الأخرى حسنة النوايا أوسيئتها، إذ كل مجتهد له حظه من الإخفاق، ومتى حسنت النوايا وسمت المقاصد احتملت الأخطاء الاجتهادية، فالقادة والزعماء تجاوزوا ذواتهم وخصوصياتهم، وتحولوا إلى موضوعات قابلة لأكثر من قراءة، وأكثر من إحالة. والرجل الذي ترك القصور الشاهقة وراء ظهره، وكسر طوق الحجَّاب، وأطفأ أبهة الملك، وجاء إلى أكواخ الفقراء، يخوض المستنقعات مع الخائضين، ويركل النفايات بقدميه، ويرفع ثوبه لكيلا يتبلل بالوحل، ويتطامن أمام الأسقف التي لا تتسع لقامته الفارهة، يقبِّل الأطفال بكل ما يعلوهم من غبرة وأسمال، ويصيخ للشاكر والشاكي، ويقف عند رأس امرأة مريضة متدثرة، يعد بالخير ويبشر بالفرج. ومن ورائه كبار المسؤولين عن تلك الشريحة، الرجل الذي يفعل ذلك بمحض إرادته، لا يضيره أن يحال تصرفه إلى أي تفسير، فهو لا يريد جزاء ولا شكوراً، لقد قالها بلسان حاله ومقاله. ومن مصلحة الفقراء أن نمسك طرف الخيط، وأن نمضي معه إلى النهاية، فنجاح الجولة سيكون لها أثرها على كل المستويات، كيف لا والفقر مصدر كل شر، حتى كاد يكون كفراً.ويقيني أن مثل هذا الفعل يُعدُّ (ضربة معلم) لأنه تنقيب في أحياء الفقراء المهمشة، وتقليب لقضاياهم المؤجلة، واستثارة لكل فئات المجتمع من مسؤولين وأثرياء، ومحاولة لكشف المخبأ. فالآخرون يظنون أن كل سعودي في بيته (بئر بترول)، وأن كل سعودي يعيش حالة من الرفاهية، وأن كل سعودي ملزم بأن يكون حمالاً لهموم الأبعدين.
(ضربة المعلم).. تريد أن تقول (الأقربون أولى بالمعروف).
( ضربة المعلم).. تريد أن توثق الفقر بوصفه ظاهرة أزلية.
(ضربة المعلم).. تريد ان تستدر العطف وتؤنب الجشعين.
(ضربة المعلم).. تريد أن تقول: الناس سواسية في خيرات بلادهم.
(ضربة المعلم).. تريد أن تدع الحقائق تعبر عن نفسها.
( ضربة معلم) تريد ان تؤكد ان (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
لقد كان بإمكان سموه أن يخرج على الناس عبر كلمة أو تصريح، يدعو فيه للمساعدة، ويذكر الناس بالفقراء، يسجل فيها موقفاً عديم الجدوى، ويسقط فيها مسؤولية. غير ان الناس كسبوا مناعة ضد المواعظ. وخطاب الأمير خطاب عملي قاطع مفحم، خطاب وثائقي، لايدع مجالاً للتأويل، أو للتملص. لقد ضبط الواقع بالصوت والصورة، وقال للأثرياء وللمسؤولين وللعالم بأسره: هؤموا أشهدوا معي المأساة، وتحملوا معي كافة المسؤولية، فنحن جميعاً قادرون على تلافيها، ولكننا لم نفعل بكل ما نملك من طاقات، وكأنه يردد في أعماقه مقولة الشاعر:
(ولم أر في عيوب الناس عيباً... كنقص القادرين على التمام) |
ولم تكن هذه الضربة المسددة هي الأولى، ولا أحسبها ستكون الأخيرة، لقد عايشنا ضربات مسددة، أعقبتها مؤسسات تربوية لرعاية الموهوبين واقتصادية استقطبت الأثرياء والعلماء والتربويين، ولا شك أن استعداده الذاتي لفعل الخير مع جهود البطانة الصالحة ومن يسرون النصيحة، حفزه لمثل هذا العمل الإنساني، لقد ألقوا في روعه أشياء كثيرة، وذكروه بمشروع (العسس الإسلامي) الذي بادر إليه الإمام العادل (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، ولا شك أن الرجل يحس بثقل المسؤولية، ويحمل هموماً كثيرة، ولا شك أنه أحس بأن هذه الفئة الصابرة المحتسبة خَفَت صوتها وسط ضجيج الفئات. إن كشفه لأحوال المعدمين المتعففين تحويل طوعي للطوق الذي يلتف حول عنقه إلى أعناق الأثرياء، الذين يبذّرون أموالهم في آفاق المعمورة على ملذاتهم الزائلة ولا ينفقون إلا وهم كارهون، وإلى المسؤولين الذين يتباطؤون في محاصرة الفقر والعوز، ويتعثرون بمخلفات (البيروقراطية) أما الذين يؤثرون على أنفسهم والذين يطورون آلياتهم فهم مع قادتهم في خندق واحد. ومن التوفيق والسداد أن بدت بوادر الاستجابة الإيجابية والفورية بشكل لم يتخيله أحد، ولو لم يكن من نتائج هذه المبادرة إلا هذا التبرع السخي من أصحاب السمو الملكي الأمراء مشعل بن عبدالعزيز وسلطان بن عبدالعزيز والوليد بن طلال بن عبدالعزيز لقلنا إن هذه الجولة قد أدت كل ثمارها، فكيف بها وهذه التبرعات السخية خطوة أولى ستعقبها خطوات من ذوي الدثور.المؤكد ان الفقر لن يحسم، لأنه ظاهرة أزلية وقضاء رباني، ولكنه سيحدد وسيحاصر، وسوف لا يهبط إلى درك المجاعة، ومتى سيطرنا عليه، وقللنا من أثره، حققنا الشيء الكثير.إن مبادرة الأمير عبدالله لن تقف عند حد الإنفاق والإعالة السلبية، وإنما ستمتد إلى التأهيل والتشغيل وتحويل الأسر المعولة إلى عائلة، بحيث ترحل آلاف الأسر من حد الفقر إلى حد الكفاف. وتلك مواجهة حضارية، ومصاحبة معالي وزير العمل المتألق الاستاذ الدكتور علي النملة لسموه في هذه الجولة الموفقة مؤشر على أن المقصود منها وضع خطة مؤسساتية حضارية لمواجهة الفقر والروتين معاً، ووضع حد معقول له في بلد أنعم الله عليه بالأمن والرخاء وفجر لأهله كنوز الأرض، لقد كانت لسمو الأمير مبادرات متعددة، جرَّت أقدام الأثرياء، وأرْخت جيوبهم، وبسطت أيديهم بالعطاء السخي، وما أحوجنا إلى ضربات متلاحقة تطال (العمالة) و(البطالة) المقنعة والمكشوفة و(التسيب الوظيفي) و(الفساد الإداري) و(الديون المخيفة) و(حوادث السيارات) و(أزمات التعليم) و(البيروقراطية) المتعفنة و(الأنظمة) المهترئة و(المحسوبيات) وسائر وجوه الحياة، فالزمان غير الزمان، والأمة مقبلة على نوازل تزلزل العقول، وليس لها بعد الله إلا من مكن الله لهم في الأرض.
|