تحلق طائراً حراً طليقاً في فضاء حريتك ووقتك الذي لك الحق في امتلاك جله، وعلى حين غرة تقتنصك نغمات تحبها.. تضيق بها.. تألفها مهما تكن مشاعرك تجاهها إلا أنها تقتنصك بخبث ناعم يتسلل إليك لا تملك إلا أن تقع من علياء فضائك في تلك المصيدة.. نعم نعم أنا في المنزل.. نعم أنا في المكتب.. نعم أنا في سهرة عند أحد الأصدقاء.. نعم أنا في المستشفى.. في الحديقة.. في ... في.. وهكذا يمضي يومك وأنت تقدم تقريراً مفصلا ًعن تحركاتك وجزئيات هذا اليوم بكامل ارادتك!
كما أن بامكانك عدم الوقوع في مصيدة تلك النغمات بوأد صوتها لكنك تحبها وتضجر منها.. ومع ذلك كله لا نحاول في أهمية الهاتف النقال في حياة الكثيرين منا تبعاً لما تقتضيه الظروف المهنية والاجتماعية والأسرية الخاصة على رغم أننا لم نكن نعاني خللاً في التواصل قبل هذا الاقتحام الموجع أحياناً اللذيذ احايين أخرى، ولكن هل تقتضي هذه الأهمية التي يشكلها هذا الجهاز أن ننتزع قسراً من أحضان لحظاتنا الخاصة، وتحركاتنا الشخصية بل توحدنا مع ذاتنا في بعض اللحظات؟!
هل تقتضي تلك الأهمية هذا الانتزاع وذلك الاقتحام على رغم أن البحث المتواصل عن شخصك وملاحقتك في كل لحظة وفي كل آن يشعرانك بأهميتك في حياة المحيطين بل فتنتشي لذلك.. ولكن هل توازي نشوتك هذه لحظات العودة إلى الذات والتراجع إلى الأعماق والالتفات إلى أمور تعنينا قد تتعطل أحياناً؟! هل تستحق ضرورة وجود هذا الجهاز في حياتنا أن نفقد من أجلها جمال الغياب؟! هل تستحق أن نمنع اشارات الاستفهام وعلامات الدهشة الرائعة ان تنتصب واقفة أمام غيابنا إجلالاً لهذا الغياب؟! مخزوناً عذباً من المشاعر المتدفقة تسعدك حين تحاول الابتعاد، ولكن أجمل من هذا المخزون العذب هو خصوصية حالاتنا التي هي أعز أوقاتنا وأجمل غياب لنا. ذلك الغياب الذي يفترض البعض أن لا حق لك فيه.. لا حق لك في الانزواء والتدثر بدفء ذلك الانزواء.. لا حتى لك في أن تتوارى هرباً من الأنظار بعيداً عن الاسماع فعذرهم إليك تلك النغمات الحالمة التي استجبت لندائها.. تظل تستجيب لتلك النداءات غير مؤمن أن من يملك جوالاً أو هاتفاً متنقلاً به في كل مكان لا يملك وقته.. فتخلصْ من هاتفك النقال لتملك وقتك وتظل في أجمل حالات غيابك.
|