أحيي كلَّ من يراسلني أو يتصل بي معلِّقاً على ما أكتب في هذه المساحة الصغيرة من جريدة الجزيرة، أو موجِّهاً، أو ناصحاً، أو منتقداً لبعض ما أكتب، حتى أولئك الذين يحلو لهم أنّْ يتواروا وراء أسماءٍ رمزيةٍ ويميلون إلى «النقد العنيف» والتحامل أحيِّيهم، وأهمس في آذانهم بكلمة مودةٍ تقول: نحن نجتهد فيما نقدِّم، وكلٌّ منا يصيب ويخطىء، ويؤخذ من قوله ويُردُ، فهوِّنوا على أنفسكم، فمساحة النقد الواعي البنَّاء فسيحة ولله الحمد... نعم، أحيِّي الجميع لأنهم يشجعون، ويوجِّهون، ويُهدون إلينا عيوبنا، وقديماً قال «رائد الصراحة والوضوح بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم» عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي، وقال لمن صرخ به قائلاً: اتق الله ياعمر: قُلْها فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها. وأحب أن أوضِّح زاوية، ربَّما أعتمتْ على بعض الأحبة القرَّاء فما تبيَّنوا المراد منها، وذلك في مقالةٍ سلَفْت عن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هناك من ظنَّ أنني أرى أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يجب أن يقتصر على رجال الهيئة دون غيرهم من البشر، ولا شك أنَّ مصدر هذا الظنَّ هو عدم فهم مرادي، مع عدم إحسان الظنِّ في مدى فهمي بصفتي أحد المسلمين لشمولية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لجميع المسلمين.
وأقول: أولاً: لابد أن يستحضر الأحبة القراء في أذهانهم أنَّ مساحة الزاوية محدودة كما ترون، وأنها لا تسمح إلا بطرح جزئياتٍ مما نريد، وهذا شأن الزوايا الصحفية، تُشير ولا تفصِّل، ويحسن بنا أن ننظر إليها بهذا المنظار حتى نكون قادرين على التقويم.
ثانياً: أنا أشرت في تلك المقالة إلى موضوع محدَّد هو «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بصفتها جهةً رسميَّة نظاميَّة في المملكة العربية السعودية وطرحت رأيي في أهميّتها، وأهمية دورها في هذا الزمن الذي فيه من مظاهر الاختلاف عن الأزمان الماضية ما نعرفه جميعاً، ومعنى ذلك أن الحديث خاصٌّ بهذه الجهة وليس بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصفةٍ عامة، وما أوردته من الآيات الكريمات كان للتأكيد على أهمية الدور الذي تقوم به هذه الجهة المحدَّدة بارك الله في جهودها .
ثالثاً: كل مسلمٍ عاقل ذكراً أم أنثى مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب قدرته واستطاعته، وبالحكمة التي تعني وضع الأمور في مواضعها، وبالموعظة الحسنة.
رابعاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتهاون به مخالفة شرعية واضحة لها مخاطرها على المجتمع والأمة، والحديث الشريف واضح كلَّ الوضوح في هذه المسألة: «من رأى منكم منكراًو فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان، فالأمر بالتغيير واضح «فليغيره» ومراعاة القدرة والاستطاعة واضحة أيضاً، بيده أو بلسانه، أو بقلبه»، وهذه من المسائل الواضحة عند جميع المسلمين، وإذا لم تكن واضحة عندهم جميعاً فلعل السبب في ذلك التقصير في الدَّعوة والبيان والإرشاد.
خامساً: لابد أن ندرك أن دور الهيئة دورٌ رسميٌّ ، وأنَّ رجل الهيئة كغيره من رجال الدولة يحمل أمانة التطبيق الواعي العادل للنظام، ولا يعني هذا الدور أن نترك نحن المسلمين شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سادساً: الفرق بيننا وبين رجال الهيئة في تغيير منكر حصل في مكان عام كالسوق والشارع والمتنزَّهات يتمثل في قدرة كلٍّ منا، فكلُّ مسلمٍ ومسلمة مطالبٌ بزجر شابٍّ يتسكَّع ويؤذي فتاةً بملاحقتها ومحاولة إغوائها، أو بزجر فتاةٍ تظهر بمظهر لا يليق ولا يجوز شرعاً، ويكون زجرنا بالوسيلة الدعوية الوعظية التي نستطيعها، إما بكلمة طيبة، أو إشارة ذات معنى تلفت نظر المخطىء، أو بإبلاغ رجال الهيئة أو الأمن إذا تفاقم الأمر، ولا يجوز لنا أن نقصِّر في هذا الواجب كما لايجوز لنا أن نتجاوز حدودنا فيه، أما رجل الهيئة فهو يتعامل مع هذا الموضوع بما يمليه عليه النظام من ردع المخالف الذي لا يرعوي عن خطئه بعد نصيحته وزجره. ومن هنا فكلُّ مسلم يٌعَدُّ رجل هيئة من حيث النظر إلى عمومية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويختصُّ رجل الهيئة بتطبيق ما يقتضيه النظام، ولكن بعد استنفاد الجهد في النصيحة والتوجيه، وهذا ما أعرفه غالباً من دور الهيئة. نحن المسلمين نتكامل، ونتعاون لنشر الخير، ورعاية الأمن، وعدم التهاون أمام مظاهر الزَّيف الثقافي، والانحراف الأخلاقي التي تشيع مع الأسف في عالمنا الإسلامي المعاصر. هذه محاولة مني لإيضاح ما قد يكون خفي على بعض الأحبة القراء، وأقول أخيراً: كما قلت أولا: رحم الله أمرأً أهدى إليَّ عيوبي.
|