|
| ||
ما أبدع الشاعر حين قال ذلك وما أبدع ما قال ومعذرةً منه لأني اتخذت قوله عنواناً لمقالي. * بين حين وحين نشتاق إلى رفاق الطفولة، وزملاء المدرسة نسأل عن أخبارهم، وعما حلَّ بهم بعد سنين من الفراق، فتأتينا الإجابة بكل بساطة، بأن فلاناً سافر للدراسة في احدى الجامعات الغربية وظن أنه يعيش في دنيا أحلامه الواسعة العريضة، فطاب له المقام وأغرته الأضواء المبهرة، ولفتت نظره الزهوة المؤقتة، فقرر الاستقرار ولم يعد. وأن آخر سافر للعمل ظناً منه أنه سيصادف مناخاً سهلاً وعطاءً جزلاً ، وأنه سيعود بثروة لا بأس بها، إلى أن استقر به المقام وسرقته الأيام، ثم هام على وجهه وأسف على ضياع عمره بعيداً عن موطنه. اليوم تتكاثر الهجرة بصورة أشد وأقوى، ونجد عائلات كثيرة تطرق أبواب الغرب، لتجد لها مكاناً هناك، ولكن ما يحدث أن ما قضى الانسان عمره في جمعه وتحصيله وضعه دفعةً واحدة في البنوك والمصارف التي تلتهم أموال الغرباء. وتسعى إلى إيهامهم ببريق الفرصة التي تلوح أمامهم، وحين تستقر العائلة المهاجرة تفاجأ بأن الحياة ليست ناعمة كالحرير، وأن الأحلام والأمنيات لم تكن إلاَّ شعارات تجارية وأوهاماً نفسية بل ان القوانين ذاتها تكشف لهم عن كمية المشاكل التي تثقل بها رؤوسهم. إن ظاهرة الهجرة والسفر والاغتراب ليست من الظواهر الجديدة ولكنها من الظواهر التي تثير القلق والدهشة معاً. لأننا كل يوم نسمع عن هؤلاء الذين هاجروا إلى أطراف الأرض وأصقاعها، واستقروا في تلك البلاد، وحملوا معهم كل حقائب الاحلام والأماني وشدتهم مغريات الحضارة إلى المدن الكبيرة. واستقروا في عالم لا يمت بصلة إلى عالهم، وقضوا أعمارهم بين مدٍ وجزرٍ ، يقاسون من الوحدة، والخوف، ويعانون من الألم، وفقدان الإحساس بالأمن، لا يصغي إلى أنينهم صديق، ولا يضمد جراحهم جار أو قريب.. هؤلاء الذين قرروا الهجرة والاغتراب، أضاعتهم الأوهام وأصابهم الندم بعد فوات الأوان. وبعد أن انصهروا في معاقل الحضارة، وعانوا من تصدع الذات، وافتقار الهوية وتناسوا تراثهم ولغتهم وماضيهم في خضم الحياة الجديدة ومنهم من قضى حياته في التنقل والترحال، وعانى الأمرين من اختلاف البيئة، وقسوة الجو، وجحيم الخوف، وتناقضات العيش إضافة إلى الصعوبة في تربية الأولاد، وتشتيت أفكارهم ، وضياع معتقداتهم فلا هم يتمتعون بعادات بلادهم ولا هم ينسجمون مع تقاليد وعادات الغرب مما يحملهم على الشعور بالتناقض والتفسخ والتمزق والانفصام، لا الثقافة ثقافتهم، ولا الاخلاق أخلاقهم، ولا البيئة تناسبهم!! فما العمل؟؟ هؤلاء استقروا في ديار الغربة، أبدعوا في عالم الطب والهندسة والعلوم والفنون وحققوا انجازات عظيمة، لا تعترف بها قوانين الغرب، لكنهم في أعماقهم يعانون من دوامة العمل والصراع، وقلوبهم تنبض بالحرمان والآسى لأنهم في حنين دائم الى تربة بلادهم وجبالها وسهولها وأنهارها، وأهلها، ولغتها. إن ما يعانيه المغترب من أشواق يفوق الميزات التي يظنها وافرة في ديار الغربة، وما يقضيه من ليالٍ هائماً مشرداً على أرصفة الشوارع، أقسى بكثير من المعاناة التي قد يصادفها في بلده.. فالغريب يظل غريباً. أو هو (كاليتيم اللطيم) الذي فقد أبويه، حياته بطيئة مملة جافة، يرتشف فيها السموم ويمتص فيها الاحزان، دون أن يجد من يسانده أو يساعده في الضيق والملمات. في السابق كانت الهجرة من الريف إلى المدينة تدعو إلى القلق خشية أن يفتقد الريف أبناءه، وشبابه، أو خشية أن تقسو أرضه ويجف زرعه، وفي الزمن الحاضر يجدر بنا أن نعارض هجرة أبنائنا وانسلاخهم عنا إلى مجتمعات غربية غريبة لن تحقق لهم السعادة المرجوة لأنهم مهما غرتهم الظواهر البراقة، ومهما خدعوا في بادئ الأمر فإنهم سيكتشفون أنهم مازالوا غرباء.. غرباء... إننا نخسر الكثير من الأدمغة والعقول العربية، نخسر الأطباء والعلماء، والمفكرين، ويجدر بنا أن نجذبهم إلينا ونفسح لهم طريق العودة، وأن نساعدهم على شق طريقهم في بلادهم ، وأن نحقق لهم الاستقرار المادي والمعنوي لأننا نحتاج إلى علمهم، كما نحتاج إلى شهاداتهم وخبراتهم وإلى بقائهم في أرضهم الكريمة. ليثقوا بأن عسرهم في ديارهم أعز لهم من يسرهم في الغربة. وقديما قال الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن وقيل لبعض الاعراب ما الغبطة، قال الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الأخوان. قيل ما المذلة: قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان . لحظة صدق آلم أقل في البداية..
|
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |