استقبلت المملكة العربية السعودية مئات بل ألوف الوفود الإعلامية من مختلف دول العالم خلال الأشهر الماضية.. ولا تزال هذه البعثات تتوافد علينا يوماً بعد يوم، ومناسبة بعد مناسبة.. وتحديداً يأتي هناك تركيز من وسائل الإعلام الأمريكية المقروءة والمرئية.. ومع عدد من كبار الشخصيات القيادية في المملكة إلى جانب عدد من الزملاء من أساتذة الجامعات ومسؤولي وسائل الإعلام السعودية نجد أنفسنا في معركة مستمرة مع هذه الشخصيات الإعلامية.. فتارة يفرضون أجندة معينة على طبيعة النقاش، وتارة ننجح في فرض أجندتنا التي نرغب الحديث فيها.. وفي كل الحالات تأتي هذه الشخصيات بأسئلة كبيرة وبموضوعات خارجية وبرؤى محددة تريد أن تعرف الكثير عن المملكة.. وبطبيعة الحال هناك هدف أساسي لمعظم هذه الوفود يتمثل في التعرف على اتجاهات الانتلجنسيا السعودية.. بمفهومها الشامل ومختلف أطياف الاهتمامات المجتمعية..
وخلال أحاديثنا مع أعضاء هذه الوفود نسألهم دائماً عن الرؤى التي يحملونها عن المملكة دولة ومؤسسات وأفرادا ومجتمعا.. ثم ماذا يريدون أن يحققوا من زياراتهم..؟ وعادة ما تكون هناك صراحة واضحة من هذه الوفود، فلديهم أسئلة محددة يحاولون ايجاد الاجابات عليها.. وعادة ما تكون هذه محصورة في موضوعات داخلية حول التعليم والدين والإعلام والمرأة وحركة التغيير في المجتمع السعودي.. أو تكون خارجية في موضوعات الارهاب والتمويل الخيري والعراق وبعض الأمور الأخرى.
ونعترف نحن بعدم اطلاعنا على تفاصيل ما تقوم به هذه الوفود من نشر وبث عن الشخصيات والموضوعات التي يتداولونها أثناء زياراتهم للمملكة.. وقد يكون نشرهم وبثهم ايجابياً، وقد يكون عكس ذلك.. وقد لا ينشرون شيئاً على الاطلاق.. حيث قد يكون المطلوب منهم هو التعرف على توجهات الرأي العام السعودي.. وقد سألت في احدى المرات احدى هذه الشخصيات الصحافية الأمريكية: هل النشر عما تم مناقشته مع مستضيفيهم هو آخر ما يفكر فيه هؤلاء الإعلاميون..؟ وأعطيته مثلاً من دولة مجاورة استضافت في وقت واحد أربعة من كبار الصحافيين الأمريكيين من صحف ومجلات كبرى ومتنافسة «!» مؤثرة في الإعلام الأمريكي.. والتقى هذا الوفد الرباعي مع ثلاث شخصيات لا غير.. أولها الشخصية القيادية الأولى في تلك الدولة، وثانيها شخصية إسلامية كبيرة في تلك الدولة، وثالثها أحد رؤساء مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية.. وقضوا مع الشخصية الأولى ثلاث ساعات، والثانية أربع ساعات والثالثة ساعة واحدة.. ثم عادوا إلى بلدهم..
والفضول حتم على صديقنا ومحدثنا أن يتابع ما ينشر في الأربع الصحف والمجلات التي يمثلها أعضاء هذا الوفد.. ولمدة شهر كامل لمعرفة ماذا ينشر؟ وكيف ينشر؟ وبأي طريقة تنشر؟
وقد جاءت المفاجأة أن مجمل ما نشرته هذه الصحف والمجلات الأمريكية لم يتعد صفحة واحدة «A4» وليس صفحة واحدة من صحيفة عن الشخصية القيادية الأولى في تلك الدولة.. ونشرت هذه الوسائل مجتمعة جملتين فقط عن مرشد الجماعات الإسلامية هناك.. وجملة واحدة فقط عن صديقنا رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية..
ومثل هذه الحالات أحياناً تطرح شكوكا عن مغزى هذه اللقاءات الإعلامية.. وما هي هدفها؟ وما هي الغايات التي تتحقق منها.. الخ.. وعلى الرغم من هذه الأسئلة إلا أنني أرى أهمية فتح المجال أمام هذه الوفود للالتقاء بالنخب السعودية حتى يستمعوا إليها مباشرة ويتعرفوا على اتجاهاتها ورؤاها في مختلف القضايا الداخلية والخارجية.. ونحن كمجتمع نمتلك والحمد لله نخبا واعية ومدركة للهم الوطني الكبير والقضايا المجتمعية الحساسة.. ولهذا عادة ما تكون هذه الأحاديث تعكس المصالح الوطنية العليا لهذه البلاد دون تكلف وبطبيعية واضحة..
ومن المنطلق الإعلامي التخصصي، فإن هذه الوفود تشكل مرحلة من مراحل التأثير على وسائل الإعلام الأمريكية بطرق مباشرة وغير مباشرة.. ومع مرور الوقت نكون قد أوصلنا رسائلنا الاستراتيجية إلى الرأي العام الأمريكي وربما ممثلي المؤسسات التنفيذية هناك.. فنحن كمجتمع لدينا رسالة سماوية هي الدين الإسلامي لا نحيد عنها، ولدينا ثوابت وطنية ننطلق منها.. وهاتان الدعامتان هما مرتكز ما نبثه ونقوله وننشره ونتداوله مع هذه الوفود..
أخيراً تحية تقدير لكل من أسهم في هذا الانفتاح الإعلامي الهام.. والذي يشكل نقطة انطلاق مهمة لتوضيح مواقف المملكة وشرح قضاياها مع الشخصيات الإعلامية والرسمية التي تتوافد إلى المملكة من مختلف الدول والمجتمعات.. وينبغي التأكيد هنا أن عدم الانفتاح الإعلامي مع العالم الخارجي لن يفيد في شيء، بل انه ربما سيكرس أكثر مشكلة سوء الفهم، والصور النمطية المتكررة عن المملكة، ويعطي فرصة أكبر لتداول الرأي الآخر المعادي والخصم لمواقف المملكة وسياساتها.. وهذه انطلاقة مهمة أولى نحو تصحيح الصورة العالمية عن المملكة التي شوهتها وسائل إعلامية معادية من ناحية، وعدم أخذنا مبادرة التقدم إلى وسائل الإعلام الخارجية لشرح مواقف المملكة وسياساتها الخارجية..
(*)رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلوم الاتصال - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود |