رمضان شهر الخيرات، فيه نزل القرآن، فأضاء بنزوله العالم أجمع، تكبل فيه الشياطين، وتتضاعف فيه الحسنات، ويتساوى فيه الفقراء والأغنياء في كبح جماح الشهوات جميعها، فالصوم في بُعده الدنيوي يعني إشعار الغني بمعاناة الفقير من الجوع والعوز، واشعار الفقير في المقابل ان العبرة في النهاية ليست بالمحتدى ولا هي بامتلاك المال والجاه والقوة، وإنما ب«التقوى»، فالصوم، ومكابدة الجوع، والحرمان من متع الدنيا في هذا الشهر، هي ممارسة عملية لقوله تعالى: {
ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير}، فالكرم في الإسلام ليس في التميز العرقي، أو الطبقي، ولا هو في البذل والعطاء المادي الذي قد لا يملكه أي إنسان، وإنما في العطاء الذاتي والروحي والإنساني الذي يملكه الناس جميعاً، والذي يتمحور حول مفهومه معنى: «التقوى»، ويضيف الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية بعداً إنسانياً فيقول: (ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضاً منبهاً على تساويهم في البشرية: {يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}.. هنا تتجلى عظمة هذا الدين، ومؤديات عباداته، وترسيخه لقيم المساواة والتآخي بين المسلمين.
وعندما نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، إني صائم» ندرك مدى أهمية التسامح، والتعامل مع الآخر بالحسنى، الذي يرسخه الإسلام في هذا الشهر، ليكرسه كقيمة حضارية من قيم الإسلام في كل الأوقات.
والصوم في رمضان من وجهة نظر أخرى هو تدريب للنفس على تقوية العزيمة أو «الإرادة»، ومواجهة أهوائها ونزواتها بالشكل والمضمون الذي يجعل المسلم قادراً على تحقيق «استقلالية» الذات، فلا يكون عبداً لشهواته، ولا أسيراً لاهوائه، ولا ضعيفاً أمام المغريات والملذات، والإنسان كما كان صاحب ارادة، وكبح جماح الرغبات، كلما استطاع ان يكون الأقوى والأقدر على مواجهة متغيرات الحياة وتقلباتها، بالقدر الذي يجعله صلباً وقادراً على السيطرة على نفسه، وضبطها وضبط رفثها وفسوقها ورغباتها، وهذا هو المعنى العميق للإنسان القوي، فالعزيمة، أو كما يسمونها اليوم «الارادة»، تعني: القوة، والمسلم القوي خير عند الله وعند الناس من المسلم الضعيف المسلوب الارادة، وغير القادر على التحكم بشهواته.
وعبادة الصوم ترتقي بالإنسان من طور أدنى إلى طور أعلى نفسياً، فيشعر خلال ممارسته لها بلذة الإيمان، وحلاوة الطاعة والامتثال لأوامر رب الأرباب، وابتعاده عن كل ما يخدش صومه، وهو في أدائه لهذه العبادة ليس عليه رقيب إلا رب العالمين لتتجلى في أعماقه إنسانيته، وثقته بالله، وأمانته أمام نفسه، في أسمى ما يمكن ان تكون، ويترسخ في أعماقه ما يسمونه في القاموس النفسي: «الضمير الحي» من خلال هذه الدُربة، فلا إلا إلا الله وحده لا شريك له، تعني أن نصرف إليه وحده كل العبادات، وطاعته دون سواه، تعني في النتيجة «التحرر» من عبادة وسلطة غيره، والخوف من أحد إلا رب العزة والجلال، فإليه جل وعلا المآل في النهاية.
|