حلقات كتبها وصورها: بشير بن سعد الرشيدي
نبدأ اليوم رحلة جديدة تمتد على مدى ستة أيام عبر حدود الوطن في مناطق ومدن وقرى مملكتنا الغالية وسنحط الرحال هذا الأسبوع في مدينة الحائط «فدك» حيث.. التاريخ.. الآثار.. الحضارة الباكرة.
ففي حلقات هذا الأسبوع نصحبكم معنا في حلقات متنوعة ومثيرة، عجائب، وغرائب وكنوز مطمورة تحت الأرض لم تكتشف بعد ولو أن ما اكتشف منها يعد كنزاً ثميناً. كان ل«الجزيرة» شرف ذلك الاكتشاف المدهش والمثير، فإلى مدينة فدك بن حام بن نوح «النبي» عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم
التسمية
«فَدكَ» بفتح الفاء والدال المهملة، بعدها كاف نسبة إلى فدك بن حام بن نوح «عليه السلام» وهو مؤسسها وهناك أقوال بأنها تنسب لفدك أحد اخوان سلمى بن العمالقة وقد ورد ذكرها في معجم البلدان لياقوت الحموي وهي ضمن المدن التي احتلها أحد ملوك بابل عام 566 ق.م.
كما أطلق عليها مدينة الحصون والأسوار نسبة إلي سورها الشهير الذي يبلغ طوله حوالي 7 كم تقريباً وقد سميت الحائط في مولد العهد السعودي الزاهر نسبة للسور الذي يحيط بجوانبها ولا غرابة إذا عرفنا تاريخ نشأة المدينة التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد واختراع اللغة وما تعاقب عليها من الأمم العربية البائدة والباقية فهي مدينة عايشت الإنسان البدائي أي إنسان ما قبل التاريخ الذي ظهرت خربشاته على سفوح جبالها وكذلك خطوط المسند والعربي ورسوم الوعول والحيوانات ووجود القلاع العملاقة والحصون الموغلة في عبق التاريخ مما يدل على حضارة باكرة شهدتها هذه المدينة الحالمة.
الموقع والمساحة والسكان
تقع مدينة الحائط في الجنوب الغربي من منطقة حائل بمسافة 250 كم فتتوسط بذلك المسافة بين مدينة حائل جنوباً والمدينة المنورة شمالاً وهي واحدة من أكبر مدن منطقة حائل كثافة سكانية وعمرانية وأقدمها تاريخاً وأميزها موقعاً بحيث تقع على الدرجة 29/40ْ طولاً و26ْ عرضاً وترتفع عن سطح البحر بما يقارب 1300م.
والحائط التي يشملها مسمى «فدك» تبلغ مساحتها «24000 كم2» وتمتد من جبل الخطام والجبل الأبيض غرباً إلى جبل العلم شرقاً ومن جبل وسمة والفرس شمالاً إلى حدود المدينة المنورة جنوباً وقد ارتبط بها إدارياً أكثر من 120 قرية وهجرة كما تحيط بها 300 قرية وهجرة.
ويبلغ عدد سكان مدينة الحائط أكثر من 000 ،50 نسمة يعملون بالتجارة والزراعة والبعض الآخر في المرافق الحكومية بحكم موقعها المميز كحاضرة المنطقة منذ القدم وفيها وحولها تتركز مظاهر الحياة بعد أن امتدت إليها يد التنمية وخصها صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمح سن بن عبدالعز يز أمير منطقة حائل باهتمامه وضمها للجهود القائمة والدراسات والبحوث لتطوير المنطقة فجعلها مدينة أثرية سياحية اقتصادية مقبلة على مرحلة انتقالية جديدة تتبوأ مكانة رفيعة فتحولت الأنظار لمدينة الحائط بعد اكتشاف معالمها السياحية التي تعتبر من أهم حضارات الشعوب والأمم التي استوطنت في هذه المنطقة.
التضاريس والتربة
تتنوع تضاريس الحائط تنوعاً محدوداً يجعل منها منطقة سياحية لعشاق الرحلات البرية حيث الرمال الذهبية الناصعة والصخور السوداء المضيئة والحرار التي تغطي معظم أرضها تشقها الأودية المشكلة للروافد الغربية لوادي «الرمة» الشهير أكبر وأعظم الأودية بالمملكة بالإضافة إلى الواحات ذات التربة الخصبة والقيعان والروضات وأشجار الطلح والسلم وكذلك الجبال العالية والمتوسطة ثم السهول شرقي الحرة وترتفع عن سطح البحر بحوالي 1300 م تتدرج بالارتفاع كلما اتجهنا نحو الغرب حيث الجبل الأبيض جبل البرد والهواء الطلق المنتجع السياحي الفريد، فهي ذات تربة خصبة صالحة للزراعة بكل معنى الكلمة.
الحائط.. فَدَك
عرفت الحائط ب«فدك» نسبة لفدك بن حام بن نوح «عليه السلام» أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع للهجرة صلحاً وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا الثلث واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلهم على الجلاء وفعل وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بها عين فوارة ونخيل كثيرة وهي التي قالت فاطمة رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحلنيها فقال أبو بكر رضي الله عنه: أريد بذلك شهوداً. فشهد لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فطلب شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا يجوز إلا شهادة رجل وامرأتين، فانصرفت ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده لما ولي الخلافة، وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين أن يردها إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان علي بن أبي طالب والعباس بن عبدالمطلب يتنازعان فيها، وكان علي رضي الله عنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة رضي الله عنها وكان العباس رضي الله عنه يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وارثه فكانا يختصمان إلى عمر رضي الله عنه فيأبى أن يحكم بينهما، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه الخلافة، كتب إلى عامله بالمدينة، يأمره برد فدك، إلى ولد فاطمة رضي الله عنها فكانت في أيديهم أيام عمر بن عبدالعزيز فلما وليها أبو العباس السفاح دفعها إلي الحسن والحسين بن علي بن أبي طالب فكان هو القيم عليها يفرقها في بني علي بن أبي طالب فلما ولي المنصور الخلافة أعادها إليهم ثم قبضها موسى الهادي، وفي عهد المأمون جاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها فأمر أن يسجل لهم بها فكتب السجل وقرئ على المأمون فقام دعبل الشاعر وأنشد قائلاً:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا
برد مأمون هاشم فدكا
وكان ذلك سنة «210» للهجرة وهكذا صار أمر فدك، خليفة يقبضها وآخر يدفعها لآل علي بن أبي طالب.
وكان لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة لأبي بكر رضي الله عنهما نحلنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تجد لذلك شاهدين كما تقدم وروي عن أم هاني أن فاطمة أتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت له: من يرثك؟ فقال: ولدي وأهلي. فقالت: فما بالك ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله ما ورثت ذهباً، ولا فضة ولا كذا ولا كذا فقالت : سهمنا بخيبر، وصدقتنا بفدك. فقال: يا بنت رسول الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما هي طعمة أطعمنيها الله تعالى في حياتي»، فإذا مت فهي بين المسلمين وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة إنما هذا المال لآل محمد لنائبتهم وضيفهم، فإذا مت فهو إلى ولي الأمر بعدي» فأمسكت.
فلما ولي عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه خطب الناس وقص قصة فدك، وخلوصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا قال عنها التاريخ
تعتبر مدينة الحائط «فدك» من أقدم المدن بالجزيرة العربية التي احتلها أحد ملوك بابل عام 566 قبل الميلاد وقد استوطنها كثير من القبائل العربية ثمود والفنيقيون والبابليون والعمالقة وبنو هلال وبنو سليم وكلاب وأشجع والدهامشة من عنزة.
ويذكر الأستاذ محمد حمد السمير التيمائي في كتابه «تيماء» من سلسلة هذه بلادنا في مسلتي حران عن حملة الملك البابلي «نبونيد» إلى تيماء، وإقامته فيها لمدة عشر سنوات تنقل فيها بين ددانو، باداكو، خيبرا، باديخر، ويثربو والأسماء الحديثة للمدن الواردة باللغة البابلية المكتوبة بالخط المسماري في كتابات الملك نبونيد هي:
1- ديدان «العلا» Dadand.
2- باداكو «فدك» الحائط Fadakku.
3- خيبرا «خيبر» Hibra.
4- يثربو «المدينة المنورة» Ia- dt-ri-bu.
وهذه الأسماء الحديثة المقابلة للمدن الواردة في النص ذكرها الباحث الإنجليزي كاد «C.J.cadd».
آثار ما قبل الميلاد
في هذه المدينة تستطيع أن تعيد عقارب الزمن إلى 556 قبل الميلاد أي 2571 سنة حضارة لتشاهد عبر آثارها العملاقة الباقية أبرز ملامح الماضي عبر عصوره المختلفة. في دول العالم كثيرا ما يعلن عن اكتشاف أماكن أثرية عبارة عن عينة واحدة كمقبرة أو بوابة أو كتابة أوحصن من الحصون وعلى مساحة واسعة.
أما هنا نجد كل هذه الأنواع وغيرها تتحدث عن ماضيها العريق حيث الحصون.. والقلاع.. والنقوش.. والرموز.. وخط المسند والعربي والكتابات الإسلامية والكوفية بالإضافة إلى قصورها التي بنيت من الصخور الضخمة فهي عجيبة ومعجزة فعندما تتجول في حرتها والأودية المجاورة لها ترى آثار الأسوار وفوهات الآبار مطمورة تحت الأرض وكذلك المقابر التي لم يكتشف تاريخها بعد..
وحين تدخل الأودية المجاورة لهذه المدينة ومنها وادي الحائط ووادي الشق ووادي المكصم يتبين من خلالها قدم عمارة وحياة هذه المنطقة وتنوع الآثار يدل على تنوع الحضارات والأمم التي استوطنت الحائط «فدك» التي تقدر حضارتها بأكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد ويكفي نسبها إلى فدك بن حام بن نوح «عليه السلام» وهناك أماكن تكثر فيها صور الوعول والتيوس ذات القرون الطويلة برع برسمها الفنان الجاهلي من خلال خربشاته على سفوح جبالها بالإضافة إلى القصور العملاقة التي مازالت قائمة عبر عصور الزمن كما أظهرت بعض الحفريات قصوراً تحت هذه القصور كما في «مليحان والقصير» ولعمري كأنما عناها أبو العلاء المعري حين قال:
صاحِ هذي قبورنا تملأ الأرض
فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
سر ان استطعت في الهواء
رويدا لا اختيالاً على رفات العباد
وكذلك توجد القصور الضخمة المشيدة من الصخور الحجرية وقد مر عليها مئات السنين بل ألوف السنين وكثير منها لا يزال قائما وبعضها أكوام من الصخور المنهارة.
أهم القصور التاريخية
1- قصر الشمروخ:
وقد ورد ذكره في «معجم ما استعجم» للبكري الأندلسي حيث ذكر أن قصر الشمروخ من أهم معالم فدك الأثرية وهو يغطي مساحة كبيرة تقدر بحوالي 200x 600م.
2- قصر الحصان:
قصر الحصان من أقدم القصور التي عرفها السكان وقد شيد مسجد بجواره وكان يوجد به بئر ماء.
3- قصر المجدورية:
وهو عبارة عن قرية متكاملة ويقع على تلة صخرية تشرف على وادي النخيل ومحاطة بسور توجد عليه أبراج مراقبة وحراسة وبجهته الشرقية عين كانت تجري وتسمى عين «الريع».
4- قصر العليبة:
ويقع شرق الحائط وتوجد به بئر لا تزال فوهتها مفتوحة وقطرها حوالي «30» سم.
5- قصر العصمية:
وهذا القصر يتوسط عددا من القصور الصغيرة ويوجد عليه كتابات إسلامية كتبت في صدر الإسلام.
6- قصر الحقلية:
ويقع في الجهة الغربية وقد بني بطريقة عجيبة في روضة مستوية في وسط وادي تميم وتكثر حول القصر آثار بيوت وسور لا يزال جزء كبير منه قائماً وبجواره قلعة تعد من أهم القلاع بالمنطقة.
7- قصر بريكان:
وتحيط به أبراج المراقبة ذات الثقوب المتعددة.
بالإضافة إلى وجود عدد من القصور التي ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر.
الأسوار والحصون
لا شك أن العرب أمة بدوية تحيا حياة الطبيعة التي تلائم بيئتها، تحيط بهم الصحراء الواسعة وتكتنفهم الرمال الناعمة الشاسعة وتظلهم السماء الصافية ويحنو عليهم القمر، وتؤنسهم النجوم، ويلذ لهم الحداء على ظهور الإبل عماد حياتهم، ومعقل فرسانهم الخيل ..وان مدينة الحائط ذات موقع استراتيجي حيث العيون العذبة المتدفقة ليلاً ونهاراً الأمر الذي يجعل أهلها يلجأون إلى تشييد القصور العالية من الصخور العاتية وعمدوا إلى بناء الأسوار لحمايتها من الغارات وذلك قبل توحيد هذا الكيان الشامخ على يد جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه.
فسوروا الأسوار فغطت الوهاد والنجاد، وعمت الأودية والشعاب ويعتبر سور الحائط الكبير أضخم سور في مملكتنا الغالية حيث يبلغ طول السور حوالي 7 كم على شكل دائري.. يحيط بكافة نواحي المنطقة وله مداخل، وركب على السور بوابتان أحداهما في الجنوب وتسمى «بوابة النويبية» والثانية في الشمال وتسمى باب الحبس وقد زود السور بالقلاع وهي قلعة باب الحبس وقلعة جريدا وقلعة الغار وقلعة أبو شجرة وقلعة الحسكانية والفديحة والغابة والبديعة والزبرة كما زودت هذه الحصون بالحراسات الأمنية عن طريق المناوبات الدورية آنذاك.
ويجدر أيضاً أن نسمي الحائط مدينة الأسوار فكل ذلك ظاهر فيها ولا غرابة إذا عرفنا تاريخ نشأة المدينة وما تعاقب عليها من الأمم العربية البائدة والباقية فهي واحة غنية بمياهها وكثرة بساتينها وخيراتها وقد قدر بعض المؤرخين نخيلها بحوالي 30000 نخلة تمد إنتاجها إلى كافة مناطق بلدنا المعطاء ولقد أقيم سور الحائط العظيم لحماية ثرواتها.
|