جدل طويل، ذلك الذي ثار حول قدرة وسائل الإعلام على التأثير في الجمهور، وعن المجالات التي يمكن من خلالها أن يحدث ذلك التأثير، استقرت الدراسات والأبحاث التي قام بها علماء الاتصال، والجهات المهتمة برصد الآثار.. السلبية تحديداً، للرسائل الإعلامية، على أن أبرز مظاهر تأثير وسائل الإعلام، من خلال «الرسائل» التي تبثها، تتركز في ثلاثة مجالات:
- التغيير المعرفي.
- تغيير الموقف والاتجاه..
- التنشئة الاجتماعية..
ليس من هدف هذه المقالة أن تتحدث عن المجالين الثاني والثالث، ولا أن تقدم عرضاً «أكاديمياً» للآلية التي تعمل وسائل الإعلام، من خلالها، لإحداث التأثير المعرفي «المقصود».
أحداث سبتمبر وتداعياتها، يتخلَّق حولها الآن، كم هائل من الرسائل الإعلامية، التي تسعى إلى إحداث «تغيير معرفي» ضخم، يقوم على إعادة تفسير العلاقة بالآخر.. انطلاقاً مما يراه ذلك «الآخر» ويريده.
أبرز ملامح هذه العلاقة أنها:
- باتجاه واحد..
- فوقية..
- وعنصرية.
حملة سبتمبر إذن، ليست عسكرية فقط، تصول طائراتها في فضاء الكون وتجول، وتمخر بارجاتها الضخمة محيطاته.. تتصيَّد «شبحاً».. صنعوه، اسمه «إرهاب القاعدة». حملة سبتمبر كذلك، ليست طوابير الجواسيس والمخبرين.. والعملاء السريين، الذين يراقبون بدقة.. طول لحيتك، أو سمك حجاب زوجتك، ويحصون.. كم في حياتك قد تلفظت بكلمة «جهاد».. أو متى كانت آخر مرة وضعت فيها صدقتك في صندوق تبرعات لكفالة الأيتام في كوسوفا أو الشيشان.
حملة سبتمبر عملية «اقتلاع» حقيقية، لكل المعارف التي تعلمتها، والعقائد التي آمنت بها، وأسلوب الحياة الذي نشأت عليه.. من خلال «إرهاب» منظم، يصادر تاريخك... ويتهم منظومتك الثقافية، ويحط من نسقك القيمي، ويسفه أسلوبك في الحياة.. ويسائل نواياك.
الحديث عن «التغيير المعرفي» الذي تهدف إليه «حملة سبتمبر»، يتطلب الدخول أولاً، في تفاصيل.. لتعريف ماهية المعرفة، وكيف يقع التغيير المعرفي.. ابتداء..
ليس من هدف هذه المقالة أن تقدم تعريفاً جامعاً مانعاً للمعرفة.
المعرفة.. باختصار شديد، مجموع كل «المعلومات» التي لدى الفرد، وتشمل الاعتقادات، المواقف، الآراء والسلوك وهي بهذا أعم وأشمل من المواقف أو الاتجاه، الذي لا يعدو أن يكون جزئية من جزئياتها. وهو أيضاً.. خلاف المعرفة التي تتسم غالباً بالثبات والرسوخ بينما الموقف متقلب في معظم الأحوال..
المعرفة بوضعها هذا، أعمق أثراً في حياة الإنسان، لأن التغير في الموقف طارئ وعارض سرعان ما يزول بزوال المؤثر، فيعود كما كان سابقاً، أو ربما ينحى منحى، عكس ما كان عليه. أما التغيُّر المعرفي، فهو بعيد الغور..
عميق الجذور ويمر بعملية تحول بطيئة، تستغرق زمناً طويلاً.
تؤثر وسائل الإعلام، ضمن عوامل أخرى في التكوين المعرفي للأفراد، من خلال عملية التعرض الطويلة المدى لتلك الوسائل، بصفتها مصادر للمعلومات، يؤدي ذلك إلى «اجتثاث» الأصول المعرفية القائمة لمسألة، أو لمجموعة من المسائل لدى الأفراد، وإحلال أصول معرفية جديدة بدلاً منها. تمثل هذه الأصول.. بمجموعها، قيماً معيارية يتحاكم إليها، وتقوم النماذج التي تقدمها، مقام الأمثلة التي يتم القياس عليها. تلجأ وسائل الإعلام لتحقيق ذلك بإيجاد.. أو اصطناع «علاقة سببية».. مفترضة، بين مقدمات ونتائج.. هي اختلقتها، وأضفت عليها صفة منطقية، ووسمتها بالعقلانية والعلمية.
تقوم العلاقة السببية، ل «المقدمات والنتائج» المصطنعة، الموسومة بالعقلانية والعلمية «..» على قراءة «مغلوطة»، و «تزييف» متعمد للواقع. حملة سبتمبر على «الإرهاب» مثل صارخ على «هذا» النوع من العلاقات:
الإسلام بكل أطيافه يُحرِّض على الكراهية.. والثقافة الإسلامية «إقصائية».. تكره الآخر، «العمليات الاستشهادية» مثالاً.. هذه «قراءة».. ! جرائم «شارون».. دفاع عن النفس، جرائم أمريكا في فيتنام وكوريا، هي لنشر «الديمقراطية».. تزييف الواقع «...».
إن تأثير وسائل الإعلام في طريقة تفكيرنا، وأسلوب تقييمنا للأشياء، من خلال ما نتلقاه منها من معلومات، يؤدي إلى تحول في قناعاتنا، وفي معتقداتنا، لأن «العقائد» حصيلة المعرفة التي اكتسبناها. أي أن رؤيتنا لأمر ما، وعقيدتنا فيه.. وموقفنا منه، إنما هو نتاج ما عرفناه عنه، فمثلاً: نحن نعرف الحلال والحرام، وهذه عقيدة من خلال العلم والمعرفة التي تعلمناها عن ذلك الحلال والحرام.لو سقنا مثالاً لشرح هذا المفهوم، فإن دور المرأة في المجتمع، مالها وما عليها، هو حصيلة ما عرفناه من تعاليم ديننا، بمعنى آخر، وضع المرأة كما رسمه الإسلام..
هو «التكوين المعرفي» الذي لدينا عن دور المرأة في المجتمع المسلم.
في مثال المرأة يحدث التغيير المعرفي، من خلال وسائل الإعلام، حينما تقوم تلك الوسائل بتقديم المرأة في المجتمع، ضمن «إطار معرفي» مخالف للتكوين المعرفي الذي لدى الجمهور عن دور المرأة وهي تلجأ في سبيل ذلك إلى استخدام قوالب جذابة «تعرض» من خلالها المرأة، وفق العلاقة «السببية» المفترضة التي أشرنا إليها.
فهي مرة ناجحة، لانها «متحررة» من ضوابط القيم، وهي أخرى محط الأنظار، وموضع اهتمام..
لأنها استغلت النواحي الجمالية في جسدها وهي ثالثة مشهورة لأنه عرف عنها «مقاومة» الأعراف والتقاليد.. وهكذا.
يحدث التغيير المعرفي عبر عملية طويلة تتنوع فيها جزئيات التكوُّن المعرفي الجديد، التي يراد إحلالها محل المعرفة القديمة.. فهذه مسلسلة تلفزيونية تصوِّر العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال رؤية «عصرية»، وهذا مقال يتحدث عن قصة «نجاح» فتاة تغلبت على «ظروفها» فتمردت على التقاليد وسافرت وحدها إلى أمريكا، حيث رجعت بأعلى الشهادات.
ثم هناك خبر عن «إنجاز» نسائي، حيث حصدت النساء الألمانيات الميداليات الذهبية، في مسابقة العدو للمسافات القصيرة والسباحة الحرة «...» بينما فشل الرجال في تحقيق أي شيء ثم في خبر آخر تخرُّج مجموعة من الفتيات من كلية الشرطة وتم تقليدهن الرتب العسرية مثل زملائهن الرجال سواء بسواء.
وهكذا تتجمع جزئيات المعرفة الجديدة لوضع المرأة.. بين حياة عصرية، وتمرد على التقاليد، و«إنجازات» تفوقت فيها على الرجال، لتشكل إطاراً معرفياً جديداً، يحل شيئاً فشيئاً محل «القديم» الذي أصبح بعد حملة سبتمبر «قبيحاً» و«متخلفاً».. ومتهماً..!
ما سبق ليس إلا مثالاً بسيطاً، يوضح كيف يحدث التغيُّر المعرفي، إلا أن العملية أعقد من ذلك بكثير إذ تتداخل فيها متغيرات كثيرة، مثل شخصية الإنسان وبيئته الاجتماعية، وتشكيله الثقافي ونفوذ قوى الضغط الاجتماعي المضادة في المجتمع.. إضافة إلى سطوة وسائل الإعلام.
وسائل الإعلام تستطيع أن تحدث تغيراً معرفياً لدى الجمهور متى استطاعت أن توظف المتغيرات السابقة، وتوجهها على إيقاع واحد متناغم، يعجِّل بالتغيير المعرفي المنشود، حسب الاتجاه الذي تريده.. ضد ما هو قائم ومناقض له، أو مع ما هو قائم وداعم له.
أقسى ما في حملة سبتمبر.. في سعيها لإحداث «تغيير» معرفي» في المجتمعات المسلمة، ليس في أنها تتوسل لتحقيق ذلك، بإرهاب فكري «منظم»، مستظل بتوحش القوة العسكرية، عبر احتقار الأمة، وإرهاب شعوبها، واستهداف ثقافتها،
والنظرة الدونية لإرثها الحضاري العظيم، مقابل تمجيد قيم وأساليب الحياة الغربية والإعلاء مما يسمى ثقافة «الحب» و«التسامح» المسيحية، التي قتلت في «القرن العشرين» أكثر من خمسين مليوناً من البشر في أوروبا وآسيا فقط. ثقافة «الحب والتسامح» التي ضاقت بمنديل تضعه طفلة على رأسها وهي ذاهبة إلى المدرسة..!
ليس هذا أقسى وأبشع ما في «حملة سبتمبر».. بل القسوة والقبح في كونها..وفي جانب منها، مهم و«مؤلم».. ومخزٍ،
إنها تتم أحياناً عبر «أدوات» مسلمة، تلبس «عباءة الثقافة»، وتعتمد أساليب «الإف.بي.آي».. وتتبنى مواقفه.. ضد الأهل.. المجتمع.. والأمة..
|