Friday 25th October,200210984العددالجمعة 19 ,شعبان 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

أسئلة ليست من بضاعة السوق أسئلة ليست من بضاعة السوق
مالك ناصر درار

يتحرر الطفل من حالته الهلامية الرخوة عندما يبدأ بالسؤال عن ماهية ما بين يديه وعما يقدم إليه فيشرع في المسيرة داخل لغته، يلائم هذه الكلمة مع تلك، يحاور ألعابه وذويه، ويوجد لنفسه عالماً يتكامل في أبعاده على قدر ما يحصل على أسئلته من أجوبة، والذين يدرسون علم نفس الطفل يعلمون أن الطفل النابه، الطفل الذي يعد وعداً جميلاً هو الذي يسأل عن كل شيء يحيط به، من أين جاء ولماذا تغير وما هو البديل عنه وكيف يستطيع أن يصل إليه.
وقديماً قيل إن «الطفل أبو الرجل»، فإذا أردنا تقصي أبوته لرجولته (أو أمومة الفتاة لأنوثتها) وجدنا أن سفرته في الحياة تكون مدرعة بالمعرفة إذا كانت مشبعة بالأسئلة.
ونحن نتذكر حين كنا في المدارس أننا ننظر باعجاب إلى الطالب الذي يطرح أسئلة على المعلم أكثر مما يطرح المعلم من أسئلة علينا، فإذا كان المعلم واسع الصدر حريصا على التعليم أكثر من حرصه على مكانته في أعيننا، فهو يمنحنا فرصة اكباره حين يشجع ذلك الطالب الطلعة على المزيد من محاولة فهم الغوامض وإدراك الأسرار والبحث وراء ما هو متيسر مبذول، ولسوء الحظ أن كثيراً من المعلمين لا يدركون مقدار الجوع في الأسئلة ولا يتهيأون لها فكنا نراهم يستاءون ويتذمرون بل يعنفون عنفاً غير متعاطف إزاء الطالب الذي يريد ان يعرف ما يقع وراء المنهج المقرر والمحفوظات التي تموت لكثرة تكرارها الميكانيكي على الأسماع. قال المفكر الاسباني أورتيجا جاسيت ان الفلسفة بدأت عندما أخذ سقراط يجول في أسواق أثينا يسأل هذا وذاك أسئلة لم تكن من بضاعة السوق وهي: ما العدالة؟ ما الخير الأسمى؟ ما الجمال؟ ما الشجاعة؟ كانت البشرية قبل سقراط تضع اجابات حاسمة لم تسبقها أسئلة فكانوا يقولون إن هذه الشجرة مقدسة، وهذه الصخرة ذات قدرات على فعل الخير أو الشر، وإن من يسبح في هذا النهر لن يصاب بأذى وكلها أقوال كهان يلقونها من أعلى إلقاء لا يقبل الجدال ولا المراجعة، ولكن مهما يكن سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم متسائلين عن هذا الأمر أو ذاك: ما جدواه، وما مصدره، وكيف يتكون فإنهم جميعاً أغفلوا التساؤل عن أمور نعتبرها الآن من البديهيات فهم مثلا أخذوا نظام الرق دون تمحيص أو تدقيق، فهذا أرسطو يبحث في السياسة كل شيء يتصل بعلاقة الفرد والدولة، بأشكال الحكومات، بالحقوق والواجبات، بالمجتمع ومقوماته، ولكنه لم يتساءل: كيف يكون من حق إنسان أن يمتلك إنساناً آخر؟ بل اعتبر الرق نظاماً مفروغاً منه ومقبولاً بلا تشكيك، وعلى هذا فإننا قد نجد أقوى العقول تتهيب أسئلة معينة أو تتناسى الخوض فيها خشية إقلاق الرأي العام الذي يرتضي أموراً تصير بعد زمان معين مثلبة وطعناً في معقولية استبصاره وعمق تفكيره. ولنقفز إلى القرن التاسع عشر وهي قفزة طويلة وواسعة، ولننظر في أقوال الكتاب الانجليز، فهم بعد بحثهم في الجمال والخير ودفاعهم عن الحقوق وحثهم على أداء الواجب نجدهم بلا استثناء تقريبا يرتضون النظام الاستعماري الذي هو بديل عن الرق الشخصي، وفي أزماننا المتأخرة فقط أخذ كتابهم يتساءلون: هل من حق أمة أن تسود أمة أخرى؟ لو أن الرق وضع موضع التساؤل لافتتحت أبواب من الحرية في أزمان بعيدة، ولو أن النظام الاستعماري تعرض للتشكيك في شرعيته لكان مصير العالم قد تغير بعض الشيء إذ لو تصورنا أن الهند في ثوراتها واندلاعاتها ضد الحكم الاستعماري نالت استقلالها منذ زمن بعيد إذن لكانت مشاكلها التي تكاد تكون مستعصية الآن أوفر إمكاناً على أن تحل. وما دمنا تطرقنا إلى الهند فلنأخذ موضوعا كان يجري فيها بلا تساؤل وهو احراق الأرملة فوق جثمان زوجها المتوفى، فكانت هذه العادة الشريرة مقبولة بلا تساؤل وكان انعدام التساؤل مدعاة الى تنفيذ أسوأ أنواع العبودية وأية عبودية أشد إيلاماً من ايقاع الموت على إنسانة ليست مسؤولة عن موت زوجها على الإطلاق، بل إن تنفيذ حكم الموت فيها يجيء تعبيراً عن إخلاص مرعب ووفاء مجدب وحب يضع الرجل وحده ميزاناً للوجود البشري برمته، إذ إن الزوج لا يطلب منه أن يموت على جثة زوجته بل يطلب ذلك من الزوجة وحدها عند وفاته. فبالإضافة الى شناعة العقاب، نراه قانوناً متحيزاً للرجل تحيزاً إجرامياً، ولم تنته هذه العادة اللاإنسانية إلا بعد أن وضعت على محك السؤال، وعن طريق السؤال تحررت المرأة من عبوديتها لها ومن السمات البشعة لهذا التقليد الذي لم يوضع موضع تساؤل من قبل وأن الزوجة كثيراً ما تكون في مطلع شبابها والزوج المتوفى كثيراً ما يكون شائخا فإنه تضحية لا معنى لها بالشباب تجاه الشيخوخة. يصفون الحضارة الأوروبية الحديثة بأنها حضارة العلم، فكيف بدأ العلم فتوحاته؟ بدأها عندما تساءل نيوتن: لماذا تسقط التفاحة على الأرض؟ وبهذا السؤال اكتشف قانون الجاذبية، ومن أسئلة مشابهة اكتشف قوانين الميكانيكة الحديثة، ونحن لا نجد حركة في العلم أو الفن أو القانون أو العلاقات الدولية إلا نتيجة سؤال لا نتيجة جواب يلقى من غير سؤال، فالجواب المعطى ابتداء يسد الطريق أمام العقل ويجعل العالم لغزاً مفتاحه عند العارفين وحدهم وهم كهنة الأسرار. صحيح ان الحياة مشحونة بالأسرار والغوامض والأحاجي، إلا أن الاستسلام لانغلاقها إنما هو استسلام لمالكي مفاتيحها، وصحيح أيضا أن شيئاً أو أشياء كثيرة من الخفايا تتغلغل في الأعمال الفنية، فليس فناً بديعاً ولا عميقاً ما يطرح على أنه بديهيات واضحة وضوح الشمس، إنني من المعجبين برواية تولستوي (الحرب والسلم) أجد فيها ينابيع ضوئية وأتلمس فيها خطوات بشرية ذات أبعاد ملحمية أخاذة ولكنني قرأت للكاتب الفرنسي أندريه جيد (المتحيز أشد التحيز للغوامض الدوستويفسكية وقد كتب بحقه كتاباً جيداً) قولاً يأخذ فيه على رواية «الحرب والسلم» شدة سطوعها الشمسي وامتلائها بالوضوح الخالي من الأسرار، ولا أظنه مصيباً في حكمه فحتى الظهيرة المشتعلة بالشمس في قلب الصحراء تتيح لجانب داكن من الوجدان أن يزدهر ويتفتح إن لم يكن لشيء فعلى الأقل يتفتح الوجدان بالتوق الى الظلال، ثم إن «الحرب والسلم» تطرح أسئلة لابد لكل إنسان من مواجهتها إذا شاء أن يحقق إنسانيته الأعمق ومن هذه الأسئلة: ما البطولة؟ وهل نابليون بطل حقيقي لأنه جهز جيشا عرمرماً حاول أن يغزو بواسطته بقاعاً لم تنله بسوء؟ وما هي طبيعة العلاقات البشرية من صداقة وحب وزواج وخصام وتنافس وكبرياء ومذلة؟ إن كل شخصية أساسية في هذه الرواية البحر سؤال أساسي في حياة كل منا تكون الاجابة عنه تحريراً لنا من الطموح المتكبر والابتذال البليد والعيش الميكانيكي والثبات المسماري والرضا الأبله. وهنا انطلق نحو الأعمال الفنية الكبرى في التاريخ فأقول انها كلها أسئلة ولأنها أسئلة فهي محررة للروح وفاتحة للأقاليم التي لولاها لبقي الناس في رقعة الشطرنج الخاصة بكل منهم لا يحركهم تساؤل عن جدوى اللعبة والبراعة في أدائها ولظل كل واحد منا بيدقا ثابتا في مكانه الصغير لا يتطور ولا يصارع صراع المحبين الأكفاء.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved