المداومة على تلاوة القرآن حلية المتقين:
يحسن بالمسلم أن يداوم على تلاوة القرآن ليلا ونهاراً، سفراً وحضراً، ومن علامة محبة الله عز وجل الاقبال على كلامه، وإلقاء سمعه كله إليه، بحيث يفرغ لحديثه سمعه وقلبه، والمحبون لا شيء ألذ لهم ولقلوبهم من سماع كلام محبوبهم، وفيه غاية مطلوبهم، ولهذا لم يكن شيء ألذ لأهل المحبة من سماع القرآن.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليَّ، قلتُ: أقرأ عليه وعليك أُنزل؟ قال: إني أُحبُّ أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تعالى: {فّكّيًفّ إذّا جٌئًنّا مٌن كٍلٌَ أٍمَّةُ بٌشّهٌيدُ وّجٌئًنّا بٌكّ عّلّى" هّؤٍلاءٌ شّهٌيدْا} قال: حسبك الآن، فرفعت رأسي فإذا عيناه تذرفان» متفق عليه.
وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بنى له مسجداً في بيته، فكان يُصلي فيه، ويقرأ حتى كاد يفتتن بقراءته نساء المشركين وأولادهم، وكان قد أجاره «ابن الدُّغنة» فذهبوا إليه واشتكوا من فعل أبي بكر رضي الله عنه فنقض ما بينه وبين «ابن الدغنة» ورضي بجوار الله عز وجل.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه أبو موسى يقول له: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وربما بكى عُمر.
(17) وّبٌالأّسًحّارٌ هٍمً يّسًتّغًفٌرٍونّ} وعلى تلاوة القرآن يداومون، ولاسيما في شهر رمضان، فكان لهم دوي بالقرآن كدوي النحل في المساجد والبيوت.
وقد كان للسلف رضي الله عنهم عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه.. فكان جماعة منهم يختمون في كل شهرين ختمة، وآخرون في كل ثماني ليال ختمة، وآخرون في كل سبع ليال ختمة، وهذا فعل الأكثرين من السلف.
وأما الذين ختموا القرآن في ركعةٍ يحيون به ليلة فلا يُحصون لكثرتهم، فمنهم «ذو النورين عثما بن عفان»، و«تميم الداري»، و«سعيد بن جبير» رضي الله عنهم وكان عثمان يبتدئ ليلة الجمعة، ويختم ليلة الخميس.
ورُوي عن البخاري صاحب الصحيح أنه كان يختم القرآن في الليلة ويومها من رمضان.
وكان الإمام أبو حنيفة ممن يختم القرآن في ليلة، وذلك أنه مر على قوم فسمعهم يقولون: هذا يختم القرآن في ليلة، فأبت عليه نفسه وأخلاقه إلا أن يكون كما يقولون، فواظب على ذلك.
قال النووي: والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له.
وكان من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحُكُومات بين المسلمين، أو غير ذلك من مهمات الدين، والمصالح العامة للمسلمين فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، ولا فوت كماله، ومن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حدالملل، أو الهذرمة في القرآن.
7- حسن تلاوة القرآن بصوت ندي:
والله سبحانه وتعالى هو الذي تكلم بالقرآن ويستمع للقارئ الحسن الصوت من محبته لسماع كلامه منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لله أشد أذنا إلى القارئ الحسن الصوت من صاحب القينة إلى قينته».
والأذن: مصدر أذن يأذن: إذا استمع.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» قيل ل«ابن أبي مُليكة» أحد رجال الحديث: يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع. رواه أبو داود.
قال «ابن قيم الجوزيه»:
ووهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه:
منها: أن ذلك المعنى إنما يقال فيه: (استغنى) لا (تغنى).
ومنها: أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من اطلاق هذا اللفظ ولو احتمله فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله.أ.هـ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنا».
ويُفسر ذلك ويوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أحسن الناس صوتا في القرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله»، فليس المراد إدارته على ألحان الغناء المعروفة، بل المراد إعطاء الحروف حقها، ومعرفة الوقوف، وذلك لا يدرك إلا بالفهم، وفقه ما يقرأ، وظهور أثر الخشية في تلاوته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرجع صوته في القراءة كما رجع يوم الفتح وهو على ناقته.
والترجيع: هو تحسين الصوت.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عليه إذا دخل عليه أبو موسى الأشعري يقول: يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى و«يتلاحن» وربما بكى عمر.
وقال من استطاع أن يتغنى غناء أبي موسى فليفعل.
وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن، فقال له عمر: اعرض علي سورة كذا، فعرض عليه، فبكى عمر.
وكان عبدالرحمن بن الأسود يتتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان.فهذه الأحاديث والآثار تدور حول تحسين الصوت، والتغني المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به».ومعلوم عند ذوي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به.قال ابن قيم الجوزيه:
التطريب والتغني على وجهين:
الوجه الأول: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: «لو علمت أنك تسمع لحبرْتُه لك تحبيرا».
والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحيله لموافقته الطبع، وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا مُتكلِّفٌ، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع.
والوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على ايقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، ولا يحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها.. وكل من له علمٌ بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة، التي هي ايقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه.
وأخيراً أختم هذه المسألة بما قاله النووي: ويستحب تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفا فهو حرام.
وأما القراءة بالألحان فإن أفرط فحرام، وإلا فلا، والأحاديث في تحسين الصوت كثيرة مشهورة في الصحيح وغيره.أ.هـ.
وليحذر الذين يسمعون القرآن من قارئ مجيد، حسن الصوت في القرآن من ترديد ألفاظ الاسترخاء إلى التنغم كقولهم: (الله) ويمد اللام، و(يا سلام)، ويمد اللام، و(صلِّ على النبي) ويمد الياء، و(أعِدْ) و(آهْ)، لأنه من يفعل ذلك فلا يفقه من القرآن شيئاً، ولا يعقل له معنى.
وفي الختام:
اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماما ونورا وهدى ورحمة. اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله لنا حُجة يا رب العالمين،
اللهم أعِنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك {رّبَّنّا آتٌنّا فٌي الدٍَنًيّا حّسّنّةْ وّفٌي الآخٌرّةٌ حّسّنّةْ وّقٌنّا عّذّابّ النَّارٌ} وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
|