تمر بلادنا بمناسبات سعيدة وعزيزة يتم خلالها استذكار المنجزات الخالدة واستعراض الجهود المخلصة، نحتفل هذه الايام باحدى هذه المناسبات التي ولدت مشاعر تؤرقني سراها ومن الصعب تجاوزها دون التعبير عن مشاعر الوفاء والتقدير والعرفان لكل ما نشاهده ونعيشه من تطور، هذه الذكرى تذكي فينا روح التفاؤل والثقة وان نمضي للمستقبل بخطى واحدة واعدة وواثقة، وبنظرة واعية ومنصفة الى ما تحقق للبلاد من منجزات تنموية ومكتسبات حضارية خلال فترة وجيزة، يجد المرء بونا شاسعا فيما تحقق من قفزات مذهلة، حينما تقاس هذه الانجازات بعمرها الزمني نجد البلاد قد كسرت تلك المعادلة، حيث تحولت في فترة قصيرة الى دولة متقدمة تنعم بأحدث تقنيات العصر وتعيش تنمية شاملة في جميع المجالات، مظاهر التقدم والتطور واضحة للعيان في مجالات الحياة كافة، مسيرة مكللة بالخير والعطاء والازدهار وحافلة بالتطور والبناء والنماء، تحقق للبلاد ارضاً وانساناً انجازات ومكاسب وتحولات استراتيجية غير عادية ونهضة شاملة في جميع الجوانب: التنموية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية.. منجزات من كثرتها استعصت على الحصر والاحصاء وقصرت دونها وسائل النشر الاعلامي، تتقدم البلاد بوتيرة اسرع مما نتكلم عنها بل احيانا لا نجيد الكلام عما تنجز الدولة، الدولة تسابق الزمن نعيش ذكرى عزيزة، وهي مناسبة تتجدد معها الآمال والاماني ويتعمق فيها الحب والولاء والوفاء لقائد هذه الامة ومصمم مسيرة تنميتها وموجهها، نحتفل بهذه الذكرى ونحن اشد تفاؤلا بمستقبل حافل بالانجازات، يجب على الجميع المشاركة في هذه المناسبة لتذكر ما وصلنا اليه من تطور ونهضة، في كل عام نحتفل بهذه المناسبة ونفتخر بما حققته البلاد من انجازات حققت للمجتمع طفرة اقتصادية اخذت بأسباب التطور وشكلت نقطة تحول ومنعطفاً تاريخياً في حياة المواطنين، هيأت لهم حياة كريمة وحققت للمملكة قفزات تنموية خلال فترة قصيرة مستفيدة من الموارد الطبيعية التي حباها الله وتزخر بها ارض المملكة وجندت جميع الامكانيات واستثمرت موارد البلاد لخدمة الوطن والمواطن، نعيش ذكرى مشرقة في تاريخ بلادنا واذ نحتفي بها فإننا نجسد بذلك المآثر وشواهد البذل والعطاء التي قدمها هذا القائد العظيم لامته فتلك القفزة تجاوزت حدود الزمن للارتقاء بالبلاد الى مصاف الامم المتقدمة فمشاريع تطوير البلاد وبرامج تنميتها شملت كل جانب.
الحديث عن مسيرة التنمية والنهضة التي عاشتها المملكة حديث مليء بالفخر والاعتزاز نحن اليوم غيرنا بالأمس فلقد كبرنا وتضاعفت اعدادنا، وكبرت مع ذلك أحلامنا وطموحاتنا، ان المستقرىء للماضي وسلوك النمو والتطور خلال الفترة الماضية وكذلك الوضع الحالي يجد ان هذا النمو انعكس على مجالات الحياة كافة، إذ شهدت البلاد تطورا كبيرا وسريعا انعكس على جميع القطاعات الاقتصادية ومن ضمنها قطاع المياه. من هذه الانجازات والمنجزات التي يحق لنا ان نعتز ونفتخر بها ونحن نشاهد هذا التطور والقفزات في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية هو ما تم تحقيقه في مجال تحلية المياه المالحة، في هذا اليوم نقف ونتذكر ونعيش التقدم والتطور الذي تحقق لقطاع المياه خلال مسيرة التنمية الشاملة والمستمرة حيث وضعت خطط تنمية طموحة لتوفير المياه الصالحة للمواطنين ولا شك ان المياه احد اهم عناصر هذا الاستقرار حيث كانت الصراعات والنزاعات بين القبائل على موارد المياه المحدودة آنذاك، كما انه مجال مرشح للصراعات بين الدول في المستقبل، تلعب المياه الدور الأساسي والرئيسي والكبير في مسيرة منظومة التنمية الشاملة والمستدامة، فالتنمية مرتبطة ومعتمدة على توافر المياه التي هي اساس الحياة، تعد المياه عصب الحياة في الماضي والحاضر والمستقبل، الانسان يظل مستخدما للمياه مادام أنه باقٍ على وجه الارض، فالحضارات قديمها وحديثها نشأت وتركزت حول موارد المياه، كان الناس يحصلون على المياه من الآبار ويحملونها على ظهورهم او على الدواب ثم تطور الامر الى استخدام السيارات والتوانك الحديدية الى ان تم تنفيذ شبكات المياه والخزانات العلوية والسفلية حتى بدأ الاستهلاك يتضاعف عشرات المرات عن ذي قبل، زاد الاستهلاك تبعاً لتطور جلب المياه، الماء مصدر الحياة البشري واحد مقومات التنمية الشاملة ومن العناصر المؤثرة في فعاليات الانتاج، ولقد عانت البلاد من شح المياه نتيجة لتكوينها الجغرافي وطبيعة مناخها المتسم بالحرارة والامطار القليلة في معظم اجزائها، حيث تفتقر الى الانهار الجارية والعيون المائية ولقد زاد من شح المياه النمو السكاني المتسارع والاتساع العمراني القياسي الذي شهدته مناطق المملكة.
منذ المراحل الاولى لتوحيد هذا الكيان حرص الموحد والمؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - على تحقيق اسباب الاستقرار للمواطنين، ولقد بذلت القيادة منذ تأسيس وتوحيد المملكة جهودا لمواجهة ازمة نقص المياه، لقد كان هاجس توفير المياه الصالحة للشرب حلماً يراود خيال القيادة في هذه البلاد بل كان من اولويات الخطط والبرامج التنموية لادراكهم ان الامن المائي وتوفيره لجميع المواطنين يعد الركيزة الاولى للتنمية والمنطلق الاساسي لبناء دولة حضارية يأخذ ابناؤها بكل اسباب التقدم والازدهار.
فعندما استقر الأمن بعد توحيد البلاد، بدأت قوافل الحجيج والمعتمرين تتزايد، ولاحظ موحد البلاد ما تعانيه مدينة جدة من نقص في المياه وحاجتها الى تأمين مصادر اضافية من المياه، وبنظرة ثاقبة اخترقت حاجز الزمن كعادته في كثير من قراراته، قام الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - في عام 1348هـ بخطوة تاريخية غير مسبوقة حيث وجه باحضار جهازين لتقطير «تحلية» مياه البحر تسمى «الكنداسة» لإمداد مدينة جدة بمياه الشرب وكانت هذه البداية الاولى لتحلية مياه البحر بهدف المساعدة في توفير احتياجات مدينة جدة من المياه، حيث وضع - رحمه الله - ملامح فكرة ايجاد مصادر جديدة وبديلة للمياه، لتعضيد ومساندة مصادر المياه الطبيعية، وهي الفكرة التي جسدها في الواقع ورعاها خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وبهذا اخذت العلاقة بين ابناء هذه البلاد والبحر طابعا جديدا يندر في اي مجتمع آخر، كانت البلاد في الماضي تعتمد على المياه الجوفية كمصدر في سقيا الاهالي ونتيجة للتطور الهائل والتقدم الحضاري والاقتصادي الذي شهدته البلاد وزيادة عدد السكان ونظرا لعدم توافر البحيرات والانهار، جاء التفكير في ايجاد مصادر مائية بديلة لتعضيد ومساندة المصادر المائية الطبيعية، وادراكا لحقيقة محدودية الموارد المائية العذبة في بلادنا وحاجة الاجيال القادمة لموارد مائية مضمونة خاصة ان برامج التنمية والتطوير في بلادنا قد تسارعت كان لزاماً على القائمين على قطاع المياه ان يجدوا الوسائل الكفيلة لدعمها ففي ظل ازمة المياه التي تعاني منها البلاد، لم يكن هناك بديل سوى استثمار البحر في توفير المياه العذبة للمواطنين، فكانت تحلية المياه احد الخيارات المطروحة لدعمها وتنويع مصادرها خاصة ان حدود بلادنا من الجهتين الشرقية والغربية شواطىء فأعدت دراسات الجدوى الاقتصادية والخطوات التمهيدية لاقامة مشاريع لتحلية المياه المالحة بعد التأكد من الجدوى الاقتصادية والامكانيات الفنية لإقامة هذه المحطات، وعندما ازداد الطلب على المياه ازدادت الحاجة الى الاتجاه الى تحلية المياه بشكل مخطط ومدروس وفقاً للتقنية الحديثة التي توسعت في هذا المجال وأصبحت تحلية مياه البحر الخيار الامثل كمصدر جديد يوفر المياه العذبة وكانت أولى بشائر صناعة مياه البحر محطتي التحلية في كل من مدينتي الوجه وضباء الواقعتين على ساحل البحر الاحمر وذلك في عام 1389هـ بطاقة انتاجية قدرها «60 ألف جالون ماء يوميا» لكل محطة ثم تلتها محطة التحلية بجدة بطاقة انتاجية قدرها «5 مليون جالون ماء يوميا» في عام 1390هـ، وتوالت بعد ذلك مشاريع تحلية المياه المالحة حتى اصبحت المملكة في مقدمة الدول المنتجة للمياه المحلاة حيث يشكل انتاجها الاجمالي «30%» من الانتاج العالمي وتمكنت من توفير ما قرابته «70%» من احتياجات المواطنين من مياه الشرب.
ونتيجة لهذه العبقرية تسارعت مشاريع محطات التحلية فأصبح الماء بعد العدم وفيرا وفي متناول ابناء هذه البلاد كافة، بل اخذت مشاريع التحلية ابعاداً اكثر تطوراً وحداثة حيث اصبحت صناعة تحلية مياه البحر من المشاريع التي اولتها الدولة جميع عنايتها واهتمامها الامر الذي جعل هذه الصناعة الخيار الاستراتيجي الاول لتعضيد مصادر المياه في المناطق التي تقصر فيها الموارد الطبيعية عن سد حاجة المواطنين، لقد تمكنت التحلية من تحقيق انجازات مشرفة ولقد اولت الدولة مشاريع التحلية الاهتمام البالغ حيث اصبحت محطات التحلية من المعالم الحضارية في كل منطقة توجد بها مشاريع لمحطات التحلية ولا يقتصر توفير المياه المحلاة على المدن الساحلية بل امتد ليشمل اغلب المدن الرئيسية الداخلية كمكة المكرمة والمدينة المنورة والمناطق الجبلية كعسير والطائف.
وكان للعاصمة نصيب وموعد مع تحلية مياه البحر، حيث تحتل مدينة الرياض - عاصمة المملكة - موقعاً مميزاً لكونها في وسط البلاد ويوصفها واحدة من اسرع مدن العالم نمواً حيث شهدت نهضة تنموية فاقت كل التوقعات والخطط، صاحب ذلك نمو وتوسع وتطور سكاني وعمراني واقتصادي وطغى الانتشار الافقي حيث انتشرت المخططات السكنية في جميع اتجاهات المدينة وزادت الهجرة اليها من القرى والارياف طلباً للعلم او العمل او التجارة والعلاج.. توسعت وتضاعفت مساحة المدينة عشرات المرات وزاد عدد السكان بصورة مذهلة فاقت الكثير من التوقعات واصبحت من اكبر المناطق الحضرية في المملكة ومن حواضر العالم البارزة حيث ازدهرت الحركة التجارية والصناعية والاقتصادية فيها وتحسن دخل الفرد وارتفع مستوى المعيشة ونتج من ذلك زيادة عدد السكان من المواطنين والوافدين للعمل وزاد استهلاك الفرد من المياه من اقل من 100 لتر ماء في اليوم الى اكثر من 300 لتر ماء في اليوم، وتطور نمط انشاء المساكن واصبحت الحدائق والمسابح والشلالات من الامور والمرافق المطلوبة والمألوفة وفي ظل تنامي عدد سكان المدينة واتساع رقعتها العمرانية ادرك المسؤولون أن المدينة ستواجه احد اهم قضايا المستقبل في تلبية الاحتياجات المتزايدة من المياه، ولمواجهة هذا النمو ولتحقيق احتياجات المدينة في المستقبل قامت الدولة بوضع الخطط والاستراتيجيات في غاية الدقة لتطوير المرافق والخدمات ومنها قطاع المياه لمواكبة هذا النمو السريع.
تبرز اهمية مشكلة المياه بشكل اكثر وضوحا في ظل الظروف المناخية الصحراوية القاسية عندما تندر كمية المياه كما ونوعا كما هو الحال في مدينة الرياض التي يتسم مناخها بدرجات حرارة مرتفعة في فصل الصيف، وتزداد اهمية المياه عموماً بازدياد النمو السكاني والعمراني والتجاري والزراعي والصناعي وما ينجم عن ذلك من زيادة في الطلب على المياه وارتفاع معدلات الاستهلاك.
نظرة تحليلية واقعية لمصادر المياه المتاحة لمدينة الرياض وكميات الطلب المتوقعة في الافق المنظور من خلال استعراض الوضع المائي في مدينة الرياض ومدى التوازن بين الطلب على المياه ومراحل استهلاكها والمعروض منها وجد ان التطوير السريع الذي تشهده المدينة الذي يتوقع ان يستمر في المستقبل المنظور بمعدلات اعلى ستكون له تبعاته في مجال الخدمات ومنها المياه مما يؤدي الى عجز الموارد الطبيعية عن الوفاء بمتطلبات المياه نظراً لمحدودية مصادر المياه الطبيعية بسبب طبيعة المنطقة الصحراوية وقلة الامطار وعدم وفرة المياه الجوفية، لذلك وجه صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبد العزيز - امير منطقة الرياض - بأنه من الضروري البحث عن مورد جديد لمواجهة الطلب على المياه مستقبلا، وكان الخيار انه لابد من الاعتماد على تحلية مياه البحر لتوفير الحاجة المتزايدة من المياه، وبذلك تم انشاء محطة تحلية في مدينة الجبيل على ساحل المنطقة الشرقية، وتنقل المياه عبر انابيب يبلغ طولها 466 كم لامداد مدينة الرياض بما مقداره 200 مليون جالون ماء يوميا وبدأ تشغيلها في عام 1403هـ.
انتشرت مشاريع تحلية المياه المالحة على السواحل الغربية والشرقية للمملكة لتأمين احتياجات المناطق بالمياه العذبة ولتكون هذه المشاريع رافداً لمصادر المياه الطبيعية في البلاد. اصبحت المملكة اكبر منتج للمياه المحلاة في العالم حيث توجد اكبر قاعدة لهذه الصناعة يمثلها «29» محطة لتحلية المياه المالحة تمد المواطنين بحوالي «5 ،2» مليون متر مكعب من المياه يوميا اي ما يعادل «657» مليون جالون ماء يوميا ولاشك ان هذا الانجاز كان له دور رئيس في تحقيق اهداف التنمية الوطنية الشاملة والمستدامة التي قادها خادم الحرمين الشريفين.
اود ان اسجل للتاريخ ان قطاع التحلية مر بمرحلتين شكلت كل مرحلة نقطة تحول في تاريخ مسيرته، المرحلة الاولى هي مرحلة التأسيس ورائدها صاحب السمو الملكي الامير محمد الفيصل، الذي يرجع اليه الدور الاول والفضل - بعد الله - في نشر صناعة التحلية في المملكة وتطويرها، حيث تم بإشرافه تأسيس «مكتب التحلية» اول مكتب لشؤون التحلية ضمن المكتب الخاص لمعالي وزير الزراعة والمياه حسن المشاري، كان من اهم اعماله دراسة الجدوى الاقتصادية والخطوات التمهيدية لانشاء محطات التحلية، ثم تم تطويره الى مديرية عامة لشؤون تحلية المياه المالحة، ثم رفع مستواه الى وكالة، وكان سموه الكريم وكيلاً لوزارة الزراعة والمياه لشؤون تحلية المياه المالحة للإشراف ومتابعة انشاء محطات التحلية، ونتيجة للتوسع في انشاء مشاريع محطات التحلية وتشغيلها وصيانتها صدر الامر الملكي رقم م/49 في 20/8/1394هـ بإنشاء المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، وتعيين سمو الامير محمد الفيصل اول محافظ للمؤسسة حيث اصبحت للمملكة الريادة في مجال تحلية المياه المالحة.
اما المرحلة الثانية رائدها هو معالي الاستاذ عبد العزيز الراشد، ثاني محافظ للمؤسسة، كان له الفضل في تأسيس واتباع الاسلوب العلمي والمنهجي في العمل الذي يُتبع حتى الآن، كان حريصاً على ادارة العمل بروح الفريق مما كان له اطيب الاثر على نفوس زملائه العاملين، وتنمية قدرات العاملين وتشجيعهم ومشاركة الجميع في القرارات مهما كان مستواها واهميتها ومهما تواضعت خبرات المشارك، ما زال الجميع يحتفظون له بذكرى عطره. وصل المنحنى البياني للرضا الوظيفي Job Satisfaction اعلى نقطة في فترة ادارته للمؤسسة كما انه استطاع في فترة قياسية ترسية اكبر مشروع تحلية في العالم، المشروع الجبار العملاق الذي يمد العاصمة الرياض بحوالي 200 مليون جالون ماء يوميا تم ترسيته بأسلوب وتكلفة لم يسبق لهما مثيل.. اكاد اجزم ان الجميع ساهم بجهد او رأي في هذا المشروع مما حقق له التوفيق والنجاح.
|