في الحلقة السابقة بينا التعاريف المتعددة للمثقف والأنتلجنسي ووجه الشبه بينهما وعرفنا المثقف السعودي سواء المحافظ أم المعاصر وما هو المطلوب منه.
والمتتبع لإنتاج المثقفين السعوديين يدرك ان بعض المثقفين السعوديين حاولوا ان يكون لهم دور في مسار التنمية وإدارة الشأن العام، إلا ان ذلك انحصر في المستوى النظري، او الاداء الروتيني الوظيفي من خلال الانخراط في الأجهزة الحكومية بصفتها المجال الوحيد الذي تحقق له الهيبة والجاه والتطلعات الشخصية للحراك الصاعد ولم تضف ثقافته على الوظيفة الابداع والمهارة وسرعة الانجاز، بل عادة ما انحنى لتوجهاتها وراعى مزاجها بتنازله عن دوره كمثقف مجتمع مكتفيا بأن يكون دولاب وظيفة ينشغل يومياً بملفات روتينية وذلك ما قلص لديه فرص العطاء والابداع او حتى حذق ادارة التنمية وفق ما يحقق اهداف المجتمع بل في كثير من الاحيان ينهج نفس مسالك البيروقراطية التي يفترض ان يعاديها او يقوم اعوجاجها.
ونحن نريد من المثقف السعودي ان يكون نزاعاً للتحديث النافع الذي يعطي الموروث جرعة من النشاط والحيوية لمسايرة الركب الدولي ولا يتعارض مع الثوابت او يشوش عليها، ولكنه يتماشى مع فقه الواقع وفق الضرورات ونريد ان يكون انجذاب المثقف السعودي للتحديث متماشياً مع الارادة السياسية ولا يصطدم مع التيار المتردد حول كل حديث ولكنه يشخص لهذا التيار المستجدات وفق فهم الواقع وكيفية التعامل معها من اجل المحافظة على الهوية لكي لاتتآكل او تندرس، وذلك من خلال اقامة المصدات الواقية للكيان من الرياح العاتية التي بدأنا نسمع صفيرها من وقت لآخر، والانسجام والتفاهم امر محتوم، اذا ادرك الجميع انهم ركاب سفينة واحدة، فالكل حريص على الهوية الاسلامية العربية بقدر حرص الجميع على الاستفادة من المنجز الحديث.
وقد تبين لنا ونحن ندرس تطور علاقة الدولة بالمجتمع ان المثقف السعودي ورغم غياب مؤسسات وتنظيمات قانونية للمجتمع المدني على غرار المجتمعات الغربية، اصبح الاكثر حضورا في ذهن الافراد والمؤسسات سواء المثقف المحافظ أم المثقف المعاصر، وهو الفاعل الذي لايمكن تجاهله من قبل المثقف الآخر.
فالمثقفون في المجتمع السعودي يطلب منهم ضمنياً ومن خلال السنن الثقافية وعبر تقاريرهم ومقالاتهم وبحوثهم وندواتهم ومشاركاتهم في المؤتمرات وتحاليلهم الموثقة تقديم النصح والمشورة والرؤية لصانع القرار ولعموم شرائح المجتمع، وذلك لما يتميزون به عن غيرهم من استشعارهم لثقل الهم الاجتماعي بواسطة ما يماثل «الرادار» الوطني القادر على التقاط الذبذبات من محيط المجتمع، وصياغتها في افكار قيمة تجسر المسافة بين المواطن والمسؤول لتعميق الثقة والشعور المتبادلين بصفتهم متميزين بالقدرة على عرض قضايا مجتمعهم وهمومه ومشاكله وشجونه سواء ما كان منها ظاهر اللعيان أم خافيا كامنا في عمق خفايا المجتمع.
فالمثقف مطلوب منه باتفاق المجتمع قيادة وشعبا ان يلتزم بالدفاع عن الحقيقة بصراحة المحب وبالطريقة المحببة الى النفوس وفق هدى النبوة، وكذلك بالمصداقية العلمية والرصانة المعرفية والتتبع المنهجي بالتقاط قضايا الوطن من قاع المجتمع ومعرفة اسبابها ودوافعها والظروف المتلبسة بها، وتشخيصها وابداء الرأي في علاجها وكذلك الاجتهاد في خلق وتوليد الافكار البناءة لإرساء القاعدة الصلبة لاستدامة التنمية الشاملة للمجتمع على الاصعدة كافة والتحصين الجيد لمواجهة الاخطار الآنية او المستقبلية.
ويروم المجتمع السعودي من المثقف الشرعي والعلمي على حد سواء الابتعاد عن بيانات كلامية فضفاضة غافلة او متغافلة عن طرح مضامين تعالج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع السعودي، فحتى المسائل العبادية لفقه النفس والمعاملات من تقوى وتوبة واستقامة وطمأنينة وتعامل يفضي الى حسن المعاملة وقضاء حوائج افراد المسلمين من قبل الموظف العام في المجتمع لابد ان تكون حاضرة في طرح المثقف وتحديدا المثقف الشرعي عبر المنابر العبادية المتاحة له يومياً، حتى لاتكون غائبة فضلا عن فضح ممارسة المكلفين في الادارة البيروقراطية، والتغافل عن هذه الملاحظة قد يدفع الى تجريد هذه الخطب الوعظية من مضمونها، ولابد من الحيلولة دونها حتى لاتغدو قناعة لدى جل الافراد.
وقد يتلخص النقد في انه يمكن القول ان الصوت الثقافي المحافظ او صوت المثقف المعاصر في المجتمع السعودي عادة ما يتعارضان، إلا انهما يتفقان في خصوصية واحدة، وهي انشغالهما بالاطروحات النظرية اكثر من العملية، وترديد مقولات تراثية او احياء افكار استنفذها التاريخ.
اما فيما يخص المثقفين العصريين بالذات فإن المشهد نفسه يعاد انتاجه: ترديد مقولات سبق ان قيلت في بقية مجتمعات الوطن العربي، او المجتمعات الليبرالية الاخرى دون ابتكار او تجديد.
فلم ينشغل لا التيار المحافظ لاستنباط حلول للمستجدات المتزامنة والمستحدثات القادمة، ولا التيار المعاصر لابداع الرؤى الفكرية الموجهة، او تحديد المسارات نحو اهداف واضحة، وهذا حكمي الشخصي، وقد يكون للآخرين رأي آخر.
كل ذلك يدفعنا الى الاعتقاد في تقصير المثقف السعودي ككل في تلمس القضايا الاجتماعية والاقتصادية والادارية والسياسية لمجتمعه، واستبصار احتياجات الوطن حتى في ابسط الخدمات الانسانية والاجتماعية، فخلت الساحة من صحافة واعلام وتأليف ومؤسسات معنية بالادب والفن او القضايا التنموية والاقتصادية والادارية.
دون ان ننسى بعض الاستثناءات التي تظهر بين الحين والآخر، تعيد لنا الامل بالطرح الجاد والهادف، مما يجعلنا نتفاءل بأن بجعبة المجتمع ذخيرة حية من الافكار والرؤى العملية التي تستديم التطبيق العملي واختبار التجربة، فالمجتمع بحاجة ماسة الى دماء جديدة تعطي الكيان نشاطاً وحيوية وتفاعل يعطي المجتمع قوة دفع لكسب الرهان او مجاراة بقية المجتمعات ضمن القافلة العالمية الطويلة اللامتناهية الاهداف.
|