مع بدايات ما يسمى عصر النهضة العربية الحديثة، أي في تلك المرحلة التي شكلت بداية تحول حقيقي وربما جذري على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها، ليس في عالمنا العربي وحسب إنما في كافة أنحاء العالم، ومع ما تزخر به تلك الفترة من مشكلات عديدة، وقضايا معقدة، وظروف صعبة كانت تعاني منها المجتمعات العربية آنذاك، إلا أن ما يلفت الانتباه أن كل تلك الأوضاع والظروف، لم تكن تشكل هاجساً - مباشراً في كتابات أدباء تلك المرحلة التي شكلت بداية انطلاقة جديدة لأدبنا العربي الحديث، بمعنى أنها لم تكن تنعكس بشكل مباشر من خلال انتاجهم الأدبي والابداعي، ولم تشغل جزءاً كبيرآً من مساحة اهتماماتهم الكتابية، وتحديداً عبر الصحافة، رغم مصيرية تلك الأحداث التي كانت تحيط بهم، والتي قد تشبه إلى حد ما ما يواجهه واقعنا العربي الآن من تحديات، على أبواب مرحلة جديدة، أو ربما صدمة جديدة تضاف إلى تراكمات الماضي المثقل باحباطات المقارنة غير المتوازنة مع الآخر، والعجز عن ايجاد صيغة منهجية للتفاعل معه، ضمن السياق الحضاري الراهن، وتفرد الذات.
وعلى الرغم من أن العديد من أدباء تلك الفترة كانوا قد استفادوا مما أتاحته الصحافة التي ربما كانت تعتبر ناشئة آنذاك، من تواصل مباشر مع جمهور القراء، ورغم ما يفترضه ذلك من اهتمام بالقضايا الآنية واليومية التي تهم الناس، انسجاماً مع الدور المفترض لهذه الصحافة، إلا أن معظمهم قد وظَّف هذا المجال الجديد توظيفاً أدبياً، فيما يمكن اعتباره نواة للصحافة الأدبية الراهنة.
حيث تحولت الصحافة في جزء كبير منها إلى ساحات للسجال الأدبي والثقافي وقد لا أحتاج أن أشير إلى سجالات طه حسين والعقاد والرافعي ومعظم أدباء ذلك الجيل المعروفين والتي كانت تمتد أحياناً إلى وقت طويل حول قضايا أدبية شكلية، قد تتعلق بأساليب الكتابة بين القديم والجديد مثلاً، أو قضايا أخرى لا تخرج غالباً عن المجال الأدبي.
بينما في المقابل نجد هناك أسماء أخرى معروفة كانت تختص في تناول جوانب أو مواضيع معينة ضمن مجالات اهتماماتها، اجتماعية أو دينية أو فكرية أو سياسية، أو تاريخية... الخ، وكان حضورها الثقافي وتفاعلها ينحصر غالباً ضمن تلك الأطر التي كانت تشكل مرجعية لتحديد الرؤية تجاه مجمل الأحداث والظروف.
وقد لا يقتصر الأمر على الكتابة الموضوعية، لكنه قد يمتد حتى إلى مجالات الابداع، ففي الثلاثينيات والأربعينيات وربما قبل ذلك كانت الحركة الرومانسية تشهد رواجاً لدى العديد من الشعراء العرب، رغم أنه لم يكن هناك في الواقع ما يدعو إلى الغنائية المفرطة والتأمل الحالم، خاصة أن معظم تلك الدول كانت تحت الاستعمار، وكانت المعاناة كبيرة، في ظل التخلف والجهل السائدين، ومع ذلك كان معظم هؤلاء الشعراء يعيشون في عالمهم الخاص بعيداً عن كل ما يحدث في الواقع.
إذا افترضنا أن هذه رؤية حقيقية لما كان يحدث.. كيف إذن يمكننا تفسير ذلك؟.. هل هو موقف سلبي فعلاً، أم أنه نتاج إدراك مغاير لمفهوم الأدب خاصة في ظل الشروط المرحلية لذلك العصر؟
لو قرأنا السير الذاتية لبعض أدباء تلك الفترة، لوجدنا أن لمعظمهم اسهاماً فاعلاً على المستوى العملي والتطبيقي ولوجدنا أنهم كانوا منغمسين فعلاً في قضايا مجتمعاتهم سواء من خلال العمل التربوي أو المجالات الأخرى، وربما كان الشاعر الذي يكتب في المساء قصيدة رومانسية، كان في الصباح يشارك في فعالية وطنية أو اجتماعية.
قد يعني ذلك أنه كانت هناك رؤية واقعية أو عملية للأمور، بحيث انه لم يكن يتم تجريد تلك القضايا من أبعادها وسياقاتها الحقيقية، واطلاقها ضمن فضاءات وهمية أو خطابية تتوسل الكتابة وما تختزنه من امكانات كبيرة للتحايل على الواقع، مما يخلق واقعاً مجازياً أو وهمياً أو رديفاً تتم من خلاله مواجهة دونكيشوتية مع كل المشكلات، مما يحول الثقافة من فعل واع، إلى صراعات فكرية وغيرها، وهو ما بدأ يحدث مع بداية تسلل الإيديولوجيا إلى الأدب فيما بعد. أشير إلى كل ذلك على خلفية ما يحدث الآن، فمن خلال متابعتي لكتابات العديد من الأدباء عبر الصحافة العربية، أجد أن هناك شبه انصراف عن طرح وتناول المواضيع والقضايا الأدبية والثقافية، مقابل الاهتمام بما هو إعلامي، أو حدثي، أو ما يسمى موضوع الساعة، هل يشكل ذلك أحد انعكاسات هذه المرحلة - المعلوماتية - على الأدب والثقافة عموماً، وهل يشير في نفس الوقت إلى بداية تحول في البنية الثقافية والأدبية.. قد تتضح سماته فيما بعد؟
قد يكون ذلك نتيجة طبيعية «لثقافة الصورة» التي يتم غرسها ليس في أحد أحداقنا وحسب بل في عقولنا ليل نهار، وبالتالي لا نملك إلا أن نهذي بهذا الكابوس الذي يسكننا، بهذه الدراكولا المعدنية التي تنشب أظافرها في جسد الحلم الذاهب إلى المدرسة أو الحقل.. لا شيء يحدث في الواقع.. إنه مجرد فيلم..
|