يلف الغموض عادة مفهوم الأنتلجنسيا لرواجه وكثرة توظيفاته وتباين مدلولاته خصوصاً أنه يتقاطع مع مفاهيم أخرى لمفهوم المثقف والمفكر فيغدو أحياناً مرادفاً لها.
والمثقف كمصالح تخلق من خلال أدباء فرنسا تلك الفئة التي تصدت للحد من النزعة العسكرية. وبالتحديد ضد المحاولة التي قادها دريفوس عام 1894م.
أما اصطلاح الأنتلجنسيا«Intellingansia» فقد استخدم من قبل الأوروبيين الشرقيين ويقصدون بهم المفكرين الذين اشتهروا بالنقد. وربرت بريم يزعم أن كثيراً من الكتاب يستخدمون اصطلاح«المثقفين» و«الأنتلجنسيا» باعتبارهما يعنيان تلك الفئة من المفكرين ذوي النزعة النقدية. أما سيمور ليبست، فقد عرف المثقفين بتلك الفئة المستغرقة في إنتاج الأفكار.
ويميز بوتومور بين المثقفين«Intellectuals» والأنتلجنسيا«Intelligensia» ويعزو هذا التفريق إلى أن مصطلح الأنتلجنسيا استخدم لأول مرة في روسيا. ويقصد به آنذاك أولئك الذين تلقوا تعليماً جامعياً يؤهلهم للاشتغال بالمهن الفنية العليا، وقد اتسع استخدامه وامتد مدلوله إلى كل الذين ينخرطون في مهن غير يدوية.
أما المثقفون فهم أولئك الذين يسهمون مباشرة في ابتكار الأفكار أو نقدها، وتضم هذه الفئة المؤلّفين والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في النظريات الاجتماعية والمحللين السياسيين، وقد يصعب تعيين حدود هذه الجماعة تماماً، ذلك لأن المستويات الدنيا منها تختلط بمهن الطبقة الوسطى مثل التدريس والصحافة، لكن الخصائص المميزة لها التي تتعلق مباشرة بثقافة المجتمع تظل واضحة وضوحاً كافياً. معنى ذلك أن المثقفين أولئك الأشخاص الذين يمكن أن ينظر إليهم بالبيئة الحاضنة لإنتاج الأفكار وتوليدها.
والثقافة أصبحت رأسمالية فالفكر في العصر الحاضر قد أصبح سلعة ذات قيمة، وأسواق هذه السلعة الجامعات والأحزاب والصالونات والنوادي الأدبية والمنابر الإعلامية بكافة أشكالها، وحلقات المناقشة من مؤتمرات وندوات وجمعيات مهنية، وذلك بحثا فيما يمكن أن يقدمه المتعلمون للمجتمع من حلول لمشكلاتهم وما يثيرونه من مناقشات في النوادي والمحاضرات والصحف والمجلات، ومن هنا تتحدد هوية المثقف.
واستناداً إلى هذه التعريفات الثرية والمتعددة للمثقف يمكن أن نعرّف المثقف السعودي باعتباره الشخص الذي حاز على درجة عليا من العلوم المعاصرة وغير المعاصرة، على أن يكون له اهتمام بالشأن الوطني وقضايا المجتمع، ويتجسد هذا الاهتمام فيما يكتبه من آراء عبر وسائل التعبير المتاحة كالكتب والدوريات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. أو باسداء الرأي والمشورة سواء للقيادة أو بقية فئات المجتمع أو من خلال أدائهم في مؤسساتهم العامة والخاصة التي يعملون بها. وعلى درجة احتكاكهم الواسع في المجتمع. وذلك بالتوعية الواعية والهادفة الى تحفيز الجماهير وتحديداً الشباب والشابات بغية تفجير بواعث الإبداع ومكامن الأداء والإنجاز بما يؤطر اللاتحام والانصهار والذوبان الاجتماعي. حتى يصبح مجتمعا متضامنا، اذا اشتكى منه فرد تداعى له بقية أفراد المجتمع بالشكوى والأنين. كما حدد أهدافه نبي الرحمة الداعي إلى التضامن والتراحم ووحدة الصف. وتعريف المثقف السعودي ليس حصراً على ذوي التكوين العلمي المعاصر، بل يتعدى ذلك إلى المؤهلين شرعياً ممن لهم اهتمام واضح في الشأن العام وبالمستجدات النافعة، والتسليم بالتحاور والمحاورة مع الآخر للاستفادة منه والتأثير عليه.
والمثقف في نظري هو الذي يضع باعتباره المصالح العامة للوطن حتى لو أدى به الأمر إلى تخليه عن مصالحه الشخصية. لأن التضحية بالمصالح الآنية تجنب الوطن والمجتمع مخاطر إذا حلت لا تفرق بين أصحاب الأنانية والإيثار.
والمثقف هو الذي يحفر بأظافره عن المصلحة العامة، من خلال أدائه اليومي أياً كان موقعه ولا يقتصر دور المثقف على تدوين آرائه وإبداعه ودفنها في بطون المطبوعات المؤلفة أو ينثرها على صفحات الجرائد رغم أهميتها.
إن المثقف في المجتمع السعودي وهو يستحضر مقولات الحداثة ومفاهيم المواطنة والأدبيات التنموية، مع إلمامه بموروثه الديني والاجتماعي أصبح في حالة من الوعي المتردد الذي فيه يتمزق بين طرفي نقيض، إذ تتجاذبه من ناحية رغبة في الانخراط ضمن تيار الحداثة والعقلانية الغربية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحديثة، ومن ناحية ثانية رغبة في المحافظة على الذات ودعم الهوية وتجنب الهيمنة الحضارية، حتى أصبح منه مثقف مزدوج الشخصية يظهر بشخصية مع كتابه وبين زملائه. ويظهر بشخصية مغايرة مع بيئته العامة. والمثقفون عموماً إما أن يمتلكوا وعياً ومكانة يسمحان لهم بصنع قدر الأمة باعتبارهم فاعلين للبناء انطلاقاً من فهمهم للتناقضات التي تحكم نسق المنظومة الاجتماعية وتحويل الصراعات والتناقضات في المجتمع إلى قوة دمج وصهر وذوبان ليصبح الوطن كله نسيجاً واحداً همه تحديد الأهداف والسير بها إلى خيار المصلحة المشتركة والمنفعة المجتمعية، فيستثمر المثقفون قوة زادهم المعرفي لخدمة مسار التنمية والتعليم والسلوك الاجتماعي، وبهذا يصبح المثقفون المشاعل التي تنير الطريق للأمة، لكونهم مثالاً يحتذى به. أو أن يتحولوا إلى مجرد أفراد من مفردات البيروقراطية القادرة على توفير المعاش الاجتماعي لهم، من خلال ما يتلقونه من راتب الوظيفة الشهري وباقي الامتيازات الأخرى.
أحداث نيويورك وما بعدها أعطت هامشا واسعا من حرية التعبير وفق القنوات المتاحة قناعة من القيادة بذلك وبدافع الثقة بالمثقف السعودي، الذي بدأ يدرك توجهات وطنه وثوابته التي لا يساوم عليها. مع إدراكه للمتغيرات العالمية وضرورة التعامل معها. وقد بدأت القيادة جادة بدفع المثقف على التنافس مع الآخر ليرتقي بمجتمعه إلى قدرة التأثير والمواجهة.
ومع ذلك لم تغنم الأنتلجنسيا السعودية الفرص المعطاة لها من القيادة. فحينما أقدمت القيادة على قرارات مهمة في التحديث ومن الاستفادة من المنجزات المعاصرة، كانت الأنتلجنسيا السعودية في تيه عن هذه المكتسبات.
فلم تتفاعل مع القرارات الجسورة والدافعة بهم إلى خضم معركة العولمة وثورة الاتصالات والمتغيرات الدولية المباغتة بين حين وآخر. فخلت الساحة منهم. وما توفيقي إلا بالله.
|