تتزاحم في الفضاء العربي من المحيط إلى الخليج ما يزيد على 200 قناة تلفزيونية، بعضها حكومية ومعظمها خاصة. وتتنافس هذه القنوات على استقطاب المشاهد العربي لتقدمه إلى المعلن. فهذه القنوات تمارس بشكل أو بآخر عملية بيع المشاهدين إلى المعلنين، أو على الأقل هذا ما تقوله كتب اقتصاديات الإعلام فبقدر ما تتمكن القناة من استقطاب المشاهدين تزيد حصتها من ايرادات الإعلان التجاري لذا كان من البديهي ان تحرص القنوات التلفزيونية وبالذات التجارية منها على عرض كل ما يمكن ان يلفت نظر المشاهد، حتى لو تطلب ذلك تجاوز بعض من المحاذير الرقابية السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية في بعض الأحيان.
نفتقر في الدول العربية إلى ارقام وإحصاءات دقيقة عن صناعة الإعلان التجاري، لكن تشير بعض التقارير إلى ان الانفاق السنوي على الاعلان التجاري التلفزيوني في المنطقة العربية يقدر بحوالي 619 مليون دولار معظم هذا المبلغ (74%) تستأثر به ثلاث قنوات فضائية خاصة. قد يبدو للبعض ان ستمائة مليون مبلغ مرتفع جدا لكن علينا ان نأخذ في الاعتبار ان هذا المبلغ كان ثمن حوالي 350 ألف اعلان مما يعني ان متوسط سعر الإعلان الواحد يصل إلى حوالي 1800 دولار وهذا بالتالي رقم صغير جدا مقارنة بالمقاييس العالمية ليس فقط في الدول الغربية بل في بعض دول جنوب شرق آسيا ومن هنا جاء عنوان هذه المقالة حول ماتقوم به القنوات الفضائية من بيع للمواطن العربي بأقل الأسعار ولزبائن (معلنين) هم في الغالب شركات أجنبية. السبب في ذلك يعود إلى آليات السوق (العرض والطلب) حيث الوفرة في القنوات الفضائية التلفزيونية التي وصل التنافس المحموم بينها إلى مرحلة لاتبشر بالخير في المستقبل المنظور لصناعة الإعلام العربي حيث انخفض سعر الاعلان التجاري وبالذات في القنوات الفضائية الخاصة إلى درجة متدنية.
قلة الموارد المالية لهذه القنوات سوف يترتب عليه قلة المبالغ المتاحة لدى هذه القنوات لانتاج برامج متميزة ترقى إلى ما نطمع فيه من مضامين اخبارية وتعليمية وثقافية.
لذا سوف تعتمد هذه القنوات في الغالب على البرامج الهابطة التي تستهدف الغرائز وبالذات تلك الموجهة إلى الشباب في منطقة الخليج، والذين يشكلون السواد الأعظم (60%) من المواطنين، وهم الشريحة ذات القدرة الشرائية التي يستهدفها المعلن.
أو قد تلجأ هذه القنوات إلى البرامج المستوردة وبشكل أساسي من الولايات المتحدة والتي تتميز برامجها برخص الأسعار بشكل ملفت للنظر. في منتصف التسعينات كان متوسط سعر الحلقة للمسلسل الأمريكي يتراوح بين 190 دولاراً (المباعة على موريتانيا) و1750 دولاراً (المباعة على السعودية) لو افترضنا ان اسعار المسلسلات الأمريكية قد ارتفعت عشرة أضعاف هذا السعر فهي لن تتجاوز عشرين ألف دولار للحلقة وعلى الرغم من ذلك ستبقى المسلسلات الأمريكية من الخيارات الأرخص المتاحة لهذه القنوات وغني عن الذكر لما لمثل هذه المسلسلات من آثار ثقافية سلبية وسيئة على تشكيل هوية الطفل والمواطن العربي.
أعتقد ان المسؤولية في ذلك تقع على الحكومات العربية مجتمعة، حيث لم تتخذ الخطوات التنظيمية اللازمة لتنظيم صناعة الإعلام بالشكل الذي يتناسب والأهمية المتنامية لوسائل الإعلام في العصر الحديث حيث فضلت كل دولة عربية وبشكل منفصل ان تتخذ موقف المتفرج عندما بدأ التطبيق الفعلي لتقنية البث المباشر على الرغم من الأصوات المرتفعة ضد هذه التقنية قبيل التطبيق الفعلي لها على نطاق واسع. هذا الموقف السلبي للدول العربية يمكن ارجاعه إلى ثلاثة أسباب أساسية خارجية وداخلية واعلامية فالدول العربية لم تحرص (على الرغم من قدرتها النسبية) على منع هذه القنوات الفضائية من الوصول إلى مواطنيها وذلك تحاشيا للظهور أمام المجتمع الدولي (في عصر العولمة وعصر الاستثمارات الأجنبية) وكأنها دول منغلقة على ذاتها ولاتحترم التعددية والحوار. يضاف إلى ذلك ان هذه القنوات نتاج استثمارات عربية في الخارج لذا رأت الدول العربية ان لم تستطع أنظمتها وقوانينها استيعاب هذه الاستثمارات الإعلامية فعلى الأقل السماح بدخول خدماتها. أما على الصعيد الداخلي فقد فضلت الدول العربية عدم تنظيم صناعة الإعلام التلفزيوني تجنبا للظهور أمام المجتمع المحلي وكأنها تبارك لهذه القنوات الفضائية أسلوبها ومنهجها وحدودها الرقابية كما ان التنظيم لهذه القنوات الفضائية سيعني بالتالي اعترافاً شرعياً ورسمياً بها قد يؤدي إلى التزامات لاترغب الدول العربية الوفاء بها وأخيراً علينا أن نتذكر ان القنوات الفضائية في حالة تنافس مع وسائل الإعلام العربية المحلية، وحيث ان الدول العربية لا تستطيع (أو قل لاترغب بشكل جاد) منع وصول هذه القنوات إلى المواطن، فهي بالتالي ليست متحمسة لتنظيمها بالشكل الذي يؤدي إلى حمايتها وازدهارها.
مشكلة الدول العربية في تعاملها مع القنوات الفضائية أنها لاترغب في الحلول الوسط، فالتنظيم بالنسبة لها يعني الرقابة وتكميم الأفواه والحجر على الرأي، وعدم التنظيم يعني الانفلات وطغيان معايير رقابية لاتتناسب وقيم المجتمع الأخلاقية وحاجته لمشاريع تنموية ثقافية سامية تقوم على مخاطبة العقل والمنطق.
أعتقد انه بالإمكان تنظيم صناعة الإعلام التلفزيوني بما يخدم الأهداف التنموية للوطن العربي دون ان يكون ذلك على حساب الرسالة الأساسية للإعلام: الحوار الاجتماعي. الدول العربية في حاجة إلى وقفة ومراجعة جادة مع سياستها تجاه القنوات الفضائية، حيث يجب صياغة سياسة وأنظمة إعلامية من أجل حماية القنوات الفضائية من بعضها البعض بما يؤدي إلى تطورها والذي سينعكس بالتالي على مضمونها حيث ان القنوات الفضائية حاليا هي الخيار المتاح للمواطن العربي في ظل أنظمة إذاعية (بشقيها المسموع والمرئي) رسمية لم تستطع حتى الآن استيعاب متطلبات العصر، التي تجاوزت وبشكل لايرقى إليه أدنى شك «نشرات الأخبار البرتوكولية» إن عدم العمل على تطوير القنوات الفضائية العربية بأسلوب عصري لن يستفيد منه سوى شركات الانتاج التلفزيوني في هوليود والقنوات الأمريكية (بواردها في الأفق) التي لن تكون بحاجة الدول العربية لحمايتها ناهيك ان تستطيع منعها.
|