Sunday 6th October,200210965العددالأحد 29 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

شدو شدو
دعوة إلى التحليق مجانا..
د. فارس محمد الغزي

سعة الخيال دليل قوة إدراك واتساع مدارك، وما العقل الإنساني إلا دائرة مساحتها -ضيقاً أم رحابة- يحددها قدرته على «المناورة» غوصا لسبرغور الأعماق وتحليقا لاكتشاف مجاهل الفضاءات، أما عكس ذلك فهو التوقف حيث عيوب ونقائص بل تبعات «نقص القادرين على التمام». الغريب ان الغربيين لا يترددون - حين يريدون الحط من قدر فرد ما- بتوصيفه بأنه فرد تعوزه القدرة على التخيل كما في قولهم في اللغة الإنجليزية «He has no imagination»..، هذا ما يحدث في الغرب أما في العالم العربي فإن حيازة القدرة على التخيل هي ذاتها وصمة وتحقير ودليل ذلك ما يشيع من العبارات التي من ضمنها على سبيل المثال توصيفهم للفرد -تحقيراً- بأنه «خيالي» بمعنى أنه بعيد عن الواقع رغم أن ابتعاد الفرد عن الواقع ليس بالضرورة دليلاً على أن الخلل فيه لا في الواقع..، فقد يكون في التحليق -خيالاً- عن الواقع تحليق بالواقع إلى حيث يجب أن ينتقل هذا الواقع. وبكل تأكيد فأسباب سلبية الموقف العربي هذا ثقافية في الأساس، ومما يبدو فهي ظاهرة محدثة من ضمن ما استجد من ظواهر عصور الانحطاط كما وصفها بذلك العلامة مالك بن نبي، هذا ومن علائم هذه الظاهرة ما يتمثل في الربط الحصري للخيال بالأدب والإبداع الأمر الذي لم يؤد الى تقليص آفاق الخيال فحسب بل أيضاً حد من الأدوار الإيجابية التي كان من الممكن أن يلعبها في الحياة الاجتماعية. فلا شك في ان تقليص مجالات الخيال الحياتية العديدة وتحديدها في مجال واحد جنبا الى جنب مع اختلاط حابل نتائج ذلك بنابل التحسس من المستورد الغربي من المناهج الأدبية.. كل هذه العوامل قادت في النهاية الى تشويه ملكة الخيال والعزوف -رغبة في السلامة- عن الدعوة الى تنميتها وشحذها رغم ان منهجية شحذ الأشياء تهذيب ممنهج ومشروع لما قد يشطح منها.
إن ضيق الخيال ضيق في الافق وفي ضيق الافق انكماش للآفاق سواء منها افاق حلول المشكلات الفردية او الجماعية شمولا لآفاق الابتكار والاختراع وكافة ما يدخل ضمن حدود الضرورات والمفاجآت وكل مشتقات «من له حيلة فليحتال» سلبا أم ايجاباً. وعلى العكس من ذلك ففي سعة الخيال ثبات في خنادق ما تم تخيله من المواقف الحرجة وهذا يعني القدرة على مجابهتها بمجرد حدوثها، وهذا القول يسري على الأفراد مثلما ينطبق أيضاً على المجتمعات. فمع سعة الخيال تضيق دوائر «الغرّة» وتتلاشى مدارات الدهشة وتنتفي مواقف ضياع الحيلة تماماً مثلما ان في ضيق الخيال اتساعاً لكل ما هو مفاجئ وملجم ومربك من المواقف الحياتية.. فالقدرة على تخيل الشيء قبل وقوعه اقرار مبدئي بحتمية وقوعه مما يضمن ترقب وقوعه، ومحاولة كهذه «ناجحة» حتى لو لم تنجح من حيث ان مجرد تخيل الفرد للشيء قبل وقوعه يعفيه على الأقل من التبعات النفسية التي من الممكن أن تنجم عن فجائية ودهشة وقوعه، وغني عن القول ان تجهيز العقل يقود الى جاهزية النفس ويدفع الى إجهاز الجسد حتي يتحقق الإنجاز. بالإضافة ففي القدرة على تخيل حدوث الأسوأ اعداد وعدة واستعداد حيث ان العقل كما وصفه الخليفة معاوية «مكيال ثلثه الفطنة وثلثاه التغافل» وتوصيف العقل بالمكيال هنا هو ذاته خيال منبعه سعة الخيال، فلا فطنة تتأتي دون خيال قادر على امداد الفرد بالقدرة على تخيل ما يمكن أن يكون فالفطنة له حين يكون.. بل إن فائدة ذلك تذهب الى ما وراء ذلك.. «ترف» التغافل عنه بعد وضعه في «الجيب» اسيراً مقيداً تحت الطلب وحسب الرغبة..!
إن في الخيال تقدماً الى الأمام بينما في عكس ذلك تقهقر ونكوص ولا شك في ان رجوع المتقدم الى الخلف أسهل بكثير من تقدم المتخلف قدماً.. ويكفي الراجع الى الخلف مؤونة ما اكتسبه من خبرات ومعارف خلال رحلة تقدمه كما انه حسب الذي لم يبارح مكانه أو يتزحزح عنه ضياع الحيلة حين يجد نفسه مدفوعاً الى «أمام» لم يسبق له تجريبه..
إن الحياة سفر وقودها الخيال أما عكس ذلك فالحياة ليست إلا توقفاً قسريا على أطلال سادت ثم بادت بسبب نقص القدرة الخيالية على «الترميم»، فمن ذا الذي اذن يلوم الشاعر ابا نواس على ما اتخذه «شعرياً» من موقف مشهور تجاه التوقف عند الاطلال لسكب دموع التأسف على ما استنفده نفاد الخيال.
في الختام أمنية «خيالية!».. متي سوف تنهض مناهجنا الدراسية لتنفض عن ملكات الخيال الاجتماعي لتلاميذنا غبار التأطير والتحجير على ملكات التحبير تلقيناً وتسطيراً..؟!

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved