* جازان إبراهيم بكري:
يسكن البحر، حرارة الشمس أحرقت جلده، الأمواج العاتية هدت قواه وكسرت عظامه، ماء البحر أطفأ نور عينه، ينام في العراء يصارع المرض وحيدا.. العطش والجوع لا يفارقانه لا يأكل معه سوى القطط، الناس هجروه.. يشرب ماء البحر، يمشي يومياً على قدميه التي لم تعد تقوى على حمله أكثر من 15 كلم من أجل أن يحصل على مبلغ 10 ريال فقط لا غير، ينام في صندوق خشبي مساحته أصغر بكثير من حجم أصغر السيارات.. المطر والرياح تهد بيته، أقصد صندوقه الخشبي وينام بالأسابيع في العراء لغاية أن يحصل على القليل من المال لكي يصلح صندوقه الخشبي الذي لم يعد يطيق أن يحتمله.. يعيش في البحر منذ أكثر من 55 عاماً هذه السنوات الطويلة رغم قسوتها لم تحرك القلوب الرحيمة المزيفة بكلمة الإنسانية.
الجمعيات الخيرية تتناساه ولا تنظر إليه، وتهتم بغيره ممن هو دونه في الحاجة، أكثر منه.. الأيام تمر عليه وتزداد قسوتها يخشى أن يموت وأن يكون أسيراً داخل صندوقه الخشبي.
هذا القليل من المعاناة الحقيقية التي ترصدها «الجزيرة» عبر زيارتها الخاصة لجزيرة المرجان بمنطقة جازان وبعد أكثر من يومين ومحاولات جادة مع صاحب هذه الحياة التعيسة ومحاولة إقناعه بضرورة فك لغز حياته في ظل رفضه لعدم ثقته بالمجتمع الذي تخلى عنه طيلة السنوات الماضية.
هذه القصة الحزينة التي يرويها من عاشها وتعايش معها ل«الجزيرة» قائلا: أنا لست مجنوناً كما يعتقد البعض. اسمي يعرفه جميع أبناء منطقة جازان حتى أصبحوا يصفون بحر جزيرة المرجان ببحر العضيل نسبة إلى اسمي: علي بن محمد عضيل، عمري 65 عاماً أما قصتي كيف أصفها.. بعد صمت للحظات قليلة بدأت دموعه تتساقط وهو يروي ل«الجزيرة» قصته وبصوت مبحوح وخفيف يخيم عليه الحزن يقول: كنت أعيش مع أسرة تتميز بالسعادة في أحد أحياء مدينة جازان قبل أكثر من خمسين عاماً وفي ظل سعادتنا تموت أمي وأخواني ولم يبق في البيت إلا أنا ووالدي الذي لم يجد متسعاً لأحزانه على فراق شريكة حياته سوى هذا المكان البحر. أبي لم ينس حياته السعيدة مع أمي كان يبكي يومياً عندما يشعر بفراقها.. يومها كان عمري ما يقارب عشر سنوات وفي ظل أحزان والدي قرر هجران بيتنا الموجود في المدينة والعيش على شاطئ بحر المرجان. كانت حياتي أنا ووالدي هنا في البحر سعيدة.
مرت الأيام والسنون ووالدي ما زال متمسكا بالعيش في البحر بعيدا عن أهل المدينة وبعد ثلاثين عاماً من حياة والدي في هذا الصندوق الخشبي يتوفى ويفارق الحياة ويلحق بأمي التي كان يرغب في أن يلحق بها من أول يوم توفت به.
ويواصل العضيل ذكر قصته الحزينة عقب لحظات من التأمل والصمت والحزن على فراقه لوالده. دموعه تنهمر بكثرة كأنه طفل حاول أن يحبس دموعه فلم يستطع فلم يجد مفراً من ذلك إلا أن يطلب من المحرر أن يتركه وحيدا. رفض المحرر أن يتركه فرفع صوته اتركوني حرام عليكم ماذا تريدون من قصتي؟ هل تريدون أن تضحكوا؟ أرجوكم ارحموني ارحموني.. شعر المحرر بأن العجوز العضيل أصبح في حالة سيئة ولا يستطيع الكلام فتركه على أن يعود له اليوم الثاني.
عقب مرور 24 ساعة تعود «الجزيرة» للعجوز العضيل تواصل فك لغز حياته الغريبة والحزينة.. وصل المحرر وقت الغداء فوجده يأكل في وضع تعجز الكلمات والصورة أن تصفه يأكل وتشاركه أكثر من 10 قطط في الطعام يأكل أرز وسمك فقط. ظن المحرر بأن كبر سن العجوز العضيل جعله لا يرى القطط وهي تأكل معه من الصحن نفسه فحاول طرد القطط فرد عليه العجوز العضيل اتركها فهذه هي الوحيدة التي تشاركني حياتي فهي أفضل من غيرها فهل أنت ترضى أن تأكل معي من هذا الطعام غير النظيف؟؟؟ فصمت المحرر أمام هذا العشق الكبير لهذه القطط من العجوز العضيل الذي يقول: تشاركني حياتي أكثر من 40 قطة فهي تأكل معي وتنام معي وتشاركني حياتي الحزينة فإذا ماتت إحدى القطط أحزن عليها بالأيام وأدفنها في مكان خاص.
أما حياته ومقاومته للمرض يقول: آه.. آه.. المرض هو عدوي هلك جسمي وهد قواي لا أستطيع أن أبصر بعيني لتجمع الماء بداخلها كما قال الطبيب يقول أحيانا أجلس طريح الفراش ولا أستطيع الحركة بالأيام بسبب المرض ولا يوجد أحد يزورني فأنا أشعر بأنني سوف أموت من المرض داخل صندوقي الخشبي ولا يشعر بي الناس إلا بعد أيام.
أما عن الجوع والعطش يقول: تمر أيام كثيرة وأنا لا آكل شيئاً ولا أشرب شيئاً فاضطر لشرب ماء البحر الذي أهلك معدتي فطعامي أرز وسمك فقط أصيده من البحر يوميا أما الأرز فاشتريه من السوق داخل مدينة جازان حيث آخذ جزءاً من السمك الذي أصيده وأذهب به مشيا على قدمي مسافة 15 كلم من أجل أن أحصل على 10 ريال فقط أشتري بها أرز وماء وهكذا أصبحت حياتي أما الآن وبعد كبر سني لا أستطيع أن أمشي هذه المسافة يومياً فأجلس أحياناً بدون طعام 3 أيام والله يعلم بسوء حالتي كيف أوفر الطعام الذي يعينني على قدرتي لركوب مركبي المتواضع والبحث عن الأسماك في أعماق البحار.
ويواصل العضيل ذكر علاقته الحميمة مع البحر قائلا: رغم أن البحر جميل إلا أنه غدار فهو يبتلع بين فترة وأخرى الكثير من أرواح الناس - والحمد لله - فقد أنقذت أكثر من 20 شابا من الغرق في هذا البحر، حتى أنا البحر كاد أن يبتلعني أكثر من مرة والحمد لله على كل حال.
|