Sunday 6th October,200210965العددالأحد 29 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

رسالة مفتوحة من شاعر جاهلي رسالة مفتوحة من شاعر جاهلي
منصور بن عبدالعزيز المهوس

حقاً إن الشعر هو «ديوان العرب» سجل مفتوح لأيامهم ومعاركهم وأفراحهم وأحزانهم وأمجادهم وخوفهم ورجائهم، وهناك قصائد خلدت ذكرهم، قصائد مرتعشة بالترقب والتحفز، قصائد مترعة بعمق الرؤية وضخامة المسؤولية، مجللة بصدق الشعور، قصائد نابضة بالوعي التاريخي، والتجذر الاجتماعي، من هذه القصائد قصيدة لايكف الطرف من التمعن فيها، والعقل من التأمل لها، دائماً شاخصة أمامنا في حمأة الحياة، لتصرخ من اعماقها بأن التاريخ يعيد نفسه، وأن هذه الليلة شديدة الشبه بالبارحة، هذه القصيدة قصيدة جاهلية لشاعر جاهلي، أمضه حال قومه من الهيام بالمادية، ولهثهم لتنمية أموالهم، والنوم ملء جفونهم في وقت يتربص بهم عدوهم، ويعد العدة لسحقهم، فالشاعر مسكون بهمٍ أقلقه، وهو مصير قومه. هذا الشاعر هو «لقيط بن يعمر الإيادي» شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة كان يحسن الفارسية، لذا اتصل بكسرى سابور الملقب ب«ذي الأكتاف» فكان من كتابه، والمطلعين على اسرار دولته، ومن مقدمي تراجمه،
وكان يتمتع بسداد الرأي والغيرة على الحرمات كما وضحته هذه القصيدة. وسبب القصيدة أنه كان بين قومه وكسرى حروب، آخرها كان النصر لهم في معركة سميت ب«دير الجماجم» منذ ذلك اليوم وكسرى يجهز عدته للثأر، فجمع قرابة ستين ألفاً من المقاتلين وأمر عليهم «مالك بن حارثة»، فعلم لقيط بهذا الخبر الصاعق، وطلب منه كسرى بعث رسالة الى قومه يطمئنهم فيه أنه لايريد قتالهم، فتكتب هذه القصيدة دون علم كسرى يحذرهم بشطه ويطالبهم بالخروج من الدعة واللهو الى الجد والاستعداد، ويذكر فيها ان قومه قد استحكم فيهم الضعف و استولت عليهم الغفلة مع قوة عدوهم، وتربصه بهم، وأن أبعد شيء عن أذهانهم هو غزو كسرى لهم لما يبديه لهم من اللين والكلام المعسول..
وهي قصيدة تعد من «غرر الشعر» بلغت قرابة ستين بيتاً، وهي من بحر «البسيط»، ابتدأها بمطلع يعد لازمة للشعر الجاهلي وهي بداية وجدانية هامسة:
يادار عمرة من محتلها الجرعا
هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
واستمر هذا المطلع ستة ابيات ثم يحسن التخلص منه الى غرضه الضاغط عليه بحرف اضراب سريع ليدخل في خوفه ووجله على قومه، يستفتحه بلومهم على تفرقهم، واعتزال كل سيد برأيه وتجهيل الآخر، بينما عدوهم متفق الرأي، ومتوحد الصف ضدهم:


بل أيها الراكب المزجي على عجل
نحو الجزيرة مرتاعاً ومنتجعاً
أبلغ إياداً وخلّل في سراتهم
أني أرى الرأي إن لم يُعص قد نصعا
يا لهف نفسي إن كانت أموركم
شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا

فهو يقول: يا أيها الرسول اسع وتنقل بين اسياد قومي «سراتهم» وأكثر التجوال فيهم وأقنعهم بخطورة الأمر، وأخبرهم أن الرزي يصبح واضحاً إذا لم يفسده العصيان، ثم يزفر زفرةملؤها التحسر والأسف «يا لهف نفسي» ان كانت احوالكم متفرقة متشتتة، وأمر العدو متحد ومتوثب للانقضاض عليكم.
ثم يدخل في محاولة إقناع قومه بخطورة الوضع فيشبه عدوهم «كسرى» وجيشه بتشبيه مرعب وهو «الموت» الذي يجتث الأصل من أعماق جذوره:


هو الجلاءُ الذي يجتث أصلكمُ
فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
ثم يصف جيشه:
ألاتخافون قوماً لا أبالكم
أمسوا إليكم كأمثال الدّبا سرعا

تشبيه رائع يجسد سرعة جيش العدو فهو امثال الدبا الذي هو الجراد قبل ان يطير فهو يقفز قفزاً ويلتهم كل شيء بشراهة فائقة.
وفي قصيدة أخرى عدها بعض النقاد كأنها مقدمة لهذه القصيدة وصف جيش كسرى بالجراد:


أتاكم منهم ستون ألفا
يزجون الكتائب كالجراد

هناك شبههم ب«الدّبا» وهنا بالجراد ففي الأولى السرعة والشراهة في الانتقام وفي الثاني في الضخامة والرعب وقوة الاستحواذ.. وفي عمق الشرر المتطاير ينام قومه في دعة، وراحة فظيعة:


مالي أراكم نياماً في بلهنية
وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
وتلبسون ثياب الأمن ضاحية
لاتجمعون وهذا الليث قد جمعا

مقابلة مخيفة بين حالهم وحال عدوهم، ومفارقة قائلة: هم يلبسون ثياباً ناعمة رقيقة، والعدو ليث كاسر، يحد شفرة أنيابه، ويجلو الصدأ عن أظفاره المميتة. فلا طريق لكم يا قوم والحرب تنهش ظهوركم إلا باتفاق يشفي الغليل ويمهد لصد العدو، ثم يطفئ الظمأ، صونوا الجياد وأبرزوا السيوف وجددوا القبسي، وقلدوا أمركم لرجل عاقل رحب المعرفة بأمر الحرب، كريم عزيز:


صونواجيادكم واجلوا سيوفكم
وجددوا للقسي النبل والشرعا
فقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

وينوع الشاعر بلهفة حادة ادوات الاستنهاض لقومه، وهذه المرة يفجر قضية خطيرة تمس العمق الاجتماعي وهو العرض والحرمات:
ياقوم لاتأمنوا إن كنتم غيرا
على نسائكم كسرى وماجمعا
تحد جديد تصوره هذه الجملة الاعتراضية ان كنتم غيُرا على نسائكم ثم يتعرض لمحك عميق ذي دلالات بعيدة وهو ان المال والسلاح لابد ان يتعاضدا للدفاع عن الوطن والحرمات، وان هذا المال الكثير الذي يموج تحت اقدام الافراد فقط انه اذا لم يتحول الى خدمة المجموعة فإن العدو إذا اخترق الوطن استل مال الافراد، فباؤوا بالخسارة المضاعفة ذهاب المال والوطن، فلابد من اتحاد المال مع السلاح ليكونا ثروة اجتماعية تشارك في حماية الأمة، وإلا فإن اموال الافراد سريعاً ما تزول بدخول العدو الارض ونهبها:


لاتثمروا المال للأعداء إنهم
إن يظهروا يحتووكم والتلاد معا
والله ما انفكت الاموال مذ ابد
لأهلها ان اصيبوا مرة ثبعا

وقبل ان يختم تحذيره التاريخي يقذف بهذه الحقيقة التاريخية ايضاً:


ماذا يردُّ عليكم عزُّ أولكم
إن ضاع آخرُهُ أو ذلَّ واتضَعا
ياقوم إن لكم من إرث أولكم
مجداً قد اشفقت ان يفنى وينقطعا

تحذير يجذر حقيقة عميقة وهو ان الخطر الشامل للحظة الحاضرة والماضية والمستقبلية، وان كل ما بناه الاجداد «المكتسبات الحضارية» سوف تكون في مهب الريح، وان الاجيال القادمة سوف تسحقكم كرهاً، وتقذفكم بغضاً، وأن الماضي العزيز لن ينفعكم ما دام حاضركم ذليلاً، فتحركوا تحركوا :


قوموا على أمشاط أرجلكم
ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا

جملة تذهل المتأمل «أمشاط أرجلكم» ثم هذه الحكمة التي ذهبت مثلاً «قد ينال الأمن من فزعا» ويختم رسالته بأنها هي النذير ومقدمة الخطر الذي يبرق في محيط الأفق، فليس أمامكم سوى العمل بنصحي والانبعاث له، فان القضية قضية وجود ومصير أمة:


هذا كتابي إليكم والنذير معا
لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
وقد بذلت لكم نصحي بلا دخل
فاستيقظوا ان الخير العلم ما نفعا

صدق الشاعر فلم يتلبس نصحه اي غش او مداراة، والدليل على ذلك انه دفع روحه ثمناً لتحذيره هذا، فقد علم كسرى بقصة هذه الرسالة فأمر به فقطع لسانه ثم قتله..
ومع كل هذا التحذير وتشقق القريحة شفقةً، مع كل هذه التضحية إلا ان قومه استمروا في غفلتهم، واخذوا يلوكون امجادهم الماضية، واتكأوا على أريكة ظنهم باستحالة هجوم عدوهم متذرعين بمتانة العلاقة بينهم، فلم يكونوا على مستوى التحدي التاريخي فجاء تفاعلهم فاتراً، حتى حل كسرى بساحتهم وسحقهم، وجعل الاحياء منهم ملجأ الشتات والضياع، وحولهم الى شذاذ في الآفاق، وتستمر هذه القصيدة العينية الشهيرة تحفر وتحفر في عقلية العرب وذاكرتهم ومستقبلهم.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved