|
| |||||||||
حقاً إن الشعر هو «ديوان العرب» سجل مفتوح لأيامهم ومعاركهم وأفراحهم وأحزانهم وأمجادهم وخوفهم ورجائهم، وهناك قصائد خلدت ذكرهم، قصائد مرتعشة بالترقب والتحفز، قصائد مترعة بعمق الرؤية وضخامة المسؤولية، مجللة بصدق الشعور، قصائد نابضة بالوعي التاريخي، والتجذر الاجتماعي، من هذه القصائد قصيدة لايكف الطرف من التمعن فيها، والعقل من التأمل لها، دائماً شاخصة أمامنا في حمأة الحياة، لتصرخ من اعماقها بأن التاريخ يعيد نفسه، وأن هذه الليلة شديدة الشبه بالبارحة، هذه القصيدة قصيدة جاهلية لشاعر جاهلي، أمضه حال قومه من الهيام بالمادية، ولهثهم لتنمية أموالهم، والنوم ملء جفونهم في وقت يتربص بهم عدوهم، ويعد العدة لسحقهم، فالشاعر مسكون بهمٍ أقلقه، وهو مصير قومه. هذا الشاعر هو «لقيط بن يعمر الإيادي» شاعر جاهلي فحل، من أهل الحيرة كان يحسن الفارسية، لذا اتصل بكسرى سابور الملقب ب«ذي الأكتاف» فكان من كتابه، والمطلعين على اسرار دولته، ومن مقدمي تراجمه،
فهو يقول: يا أيها الرسول اسع وتنقل بين اسياد قومي «سراتهم» وأكثر التجوال فيهم وأقنعهم بخطورة الأمر، وأخبرهم أن الرزي يصبح واضحاً إذا لم يفسده العصيان، ثم يزفر زفرةملؤها التحسر والأسف «يا لهف نفسي» ان كانت احوالكم متفرقة متشتتة، وأمر العدو متحد ومتوثب للانقضاض عليكم. ثم يدخل في محاولة إقناع قومه بخطورة الوضع فيشبه عدوهم «كسرى» وجيشه بتشبيه مرعب وهو «الموت» الذي يجتث الأصل من أعماق جذوره:
تشبيه رائع يجسد سرعة جيش العدو فهو امثال الدبا الذي هو الجراد قبل ان يطير فهو يقفز قفزاً ويلتهم كل شيء بشراهة فائقة. وفي قصيدة أخرى عدها بعض النقاد كأنها مقدمة لهذه القصيدة وصف جيش كسرى بالجراد:
هناك شبههم ب«الدّبا» وهنا بالجراد ففي الأولى السرعة والشراهة في الانتقام وفي الثاني في الضخامة والرعب وقوة الاستحواذ.. وفي عمق الشرر المتطاير ينام قومه في دعة، وراحة فظيعة:
مقابلة مخيفة بين حالهم وحال عدوهم، ومفارقة قائلة: هم يلبسون ثياباً ناعمة رقيقة، والعدو ليث كاسر، يحد شفرة أنيابه، ويجلو الصدأ عن أظفاره المميتة. فلا طريق لكم يا قوم والحرب تنهش ظهوركم إلا باتفاق يشفي الغليل ويمهد لصد العدو، ثم يطفئ الظمأ، صونوا الجياد وأبرزوا السيوف وجددوا القبسي، وقلدوا أمركم لرجل عاقل رحب المعرفة بأمر الحرب، كريم عزيز:
وينوع الشاعر بلهفة حادة ادوات الاستنهاض لقومه، وهذه المرة يفجر قضية خطيرة تمس العمق الاجتماعي وهو العرض والحرمات: ياقوم لاتأمنوا إن كنتم غيرا على نسائكم كسرى وماجمعا تحد جديد تصوره هذه الجملة الاعتراضية ان كنتم غيُرا على نسائكم ثم يتعرض لمحك عميق ذي دلالات بعيدة وهو ان المال والسلاح لابد ان يتعاضدا للدفاع عن الوطن والحرمات، وان هذا المال الكثير الذي يموج تحت اقدام الافراد فقط انه اذا لم يتحول الى خدمة المجموعة فإن العدو إذا اخترق الوطن استل مال الافراد، فباؤوا بالخسارة المضاعفة ذهاب المال والوطن، فلابد من اتحاد المال مع السلاح ليكونا ثروة اجتماعية تشارك في حماية الأمة، وإلا فإن اموال الافراد سريعاً ما تزول بدخول العدو الارض ونهبها:
وقبل ان يختم تحذيره التاريخي يقذف بهذه الحقيقة التاريخية ايضاً:
تحذير يجذر حقيقة عميقة وهو ان الخطر الشامل للحظة الحاضرة والماضية والمستقبلية، وان كل ما بناه الاجداد «المكتسبات الحضارية» سوف تكون في مهب الريح، وان الاجيال القادمة سوف تسحقكم كرهاً، وتقذفكم بغضاً، وأن الماضي العزيز لن ينفعكم ما دام حاضركم ذليلاً، فتحركوا تحركوا :
جملة تذهل المتأمل «أمشاط أرجلكم» ثم هذه الحكمة التي ذهبت مثلاً «قد ينال الأمن من فزعا» ويختم رسالته بأنها هي النذير ومقدمة الخطر الذي يبرق في محيط الأفق، فليس أمامكم سوى العمل بنصحي والانبعاث له، فان القضية قضية وجود ومصير أمة:
صدق الشاعر فلم يتلبس نصحه اي غش او مداراة، والدليل على ذلك انه دفع روحه ثمناً لتحذيره هذا، فقد علم كسرى بقصة هذه الرسالة فأمر به فقطع لسانه ثم قتله.. ومع كل هذا التحذير وتشقق القريحة شفقةً، مع كل هذه التضحية إلا ان قومه استمروا في غفلتهم، واخذوا يلوكون امجادهم الماضية، واتكأوا على أريكة ظنهم باستحالة هجوم عدوهم متذرعين بمتانة العلاقة بينهم، فلم يكونوا على مستوى التحدي التاريخي فجاء تفاعلهم فاتراً، حتى حل كسرى بساحتهم وسحقهم، وجعل الاحياء منهم ملجأ الشتات والضياع، وحولهم الى شذاذ في الآفاق، وتستمر هذه القصيدة العينية الشهيرة تحفر وتحفر في عقلية العرب وذاكرتهم ومستقبلهم. |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |