يبدو اننا لم نتجاوز بعد رغم كل التجارب المرة التي مررنا بها مرحلة «الارض بتتكلم عربي»، ومع ان ذلك لم يثبت فعليا او مجازيا طوال سنوات عدة منذ ان اخترعنا ذلك الوهم وصدقناه الا اننا مازلنا مسكونين بصداه الذي يتردد في عقولنا، ويدفعنا الى مزيد من المغالطات البعيدة عن الواقع وعن معطيات الاحداث، تائهين في فضاءات المرايا التي تأخذنا الى ازمنة اخرى، حيث نرى ظلالنا اكبر من مساحة الضوء، وحيث تتداخل الابعاد وتختلط الرؤى والازمنة ويصبح الواقع مسرحا للظلال التي تتقمص شخصيات اسطورية، مستعيدة سيف المهلهل او رمح عنترة، ومستعيدة صوت جدنا الجاهلي وهو يردد:
إذابلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا |
وازاء هذا التضخيم الكاريكتوري للذات او ربما هذه الرؤية للواقع تتشكل ثقافة موازية لها آلياتها ومرجعياتها الوهمية ومفرداتها الصاخبة التي تستند في جزء كبير منها الى بعض مكونات الذاكرة الشعبية من خرافات واساطير وسير ملحمية ويتم ذلك كنوع من الهروب او ربما التعويض عن احباطات الواقع من خلال خلق واقع وهمي او مجازي حيث يتم استبدال الفعل بالخطاب والمواجهة بالحلم والسؤال بالاجوبة الجاهزة، كما يتم تجريد الكثير من القضايا والمواضيع التي تواجه المجتمع من سياقاتها التاريخية والموضوعية، لتوضع في اطار خطابي يفتقد الى العقلانية والمنهجية، ويزعم امتلاك حلول سحرية لكل المشكلات، ويتميز بالقدرة على ايجاد مبررات وهمية لكل الاخطاء، فبدلا من الاعتراف بالهزيمة مثلا، يتم البحث عن اسم آخر لها كأن تسمى نكبة او نكسة او معارك مثلا، على حساب انها حدثت ربما خارج سياق التاريخ والمنطق الذي يقول اننا غير قابلين للهزيمة والانكسار، الذي لابد ان يعود لتصحيح مساره ويجبر الاعداء على الانحناء امام هيبة ظلالنا المنتصرة، قريبا.. اي ذات وهم، تصديقا ربما لرؤية جدنا الجاهلي الذي لا يليق بنا وضعه في موقف محرج بعد هذا العمر الطويل الموزع بين الدنيا والآخرة وخذلانه بهذا الشكل المزري، حتى لو كان من يخرون هم آلاف الشهداء الذين نصفهم من الاطفال والنساء، بينما الجبابرة يواصلون تخطي الجثث الملقاة على الطرقات.ولان الصورة تتعدد بتعدد المرايا، فاننا قد نرى صورة مغايرة فيما لو اقتربنا من مرايا «عبدالعزيز حمودة» مثلا سواء المقعرة منها او المحدبة، اي تلك التي تضخم الصورة بحيث تحتل فضاء المشهد طامسة اي خلفية اخرى، او تلك التي تحولها الى مجرد شبح يختفي في زحمة التفاصيل، وحتى عندما تكون تلك المرايا مسطحة اي تنقل الصورة بحجمها الطبيعي فهي تبقى في كل الاحوال مرايا، تكتفي بعكس الضوء دون ملامسته، او التحاور معه ولكن ماذا لو كانت تلك المرايا منشطرة الى نصفين او حتى متشظية الى جزر عدة؟في كل الاحوال سيطل من خلفها من يشبهنا، بينما تواصل هي لعبتها الازلية، مقهقهة بصوتها الصاخب.وماذا اذن عن الذين قرروا مغادرة حدائق الوهم وخرجوا من ظلال المرايا الى شمس النهار المحرقة؟ الى رصاص الواقع الذي يخترق الحلم والجسد معا، ماذا عنهم الذين قرورا مواجهة مصائرهم ومستقبلهم بعيدا عن الخطاب وقريبا من حجارة الارض؟ حيث تمتزج الاسئلة بالدماء، ولا احد يجيب، لا اهل الكهف ولا سكان المرايا.
انهم بالتأكيد يدفعون ثمنا غاليا هناك في فلسطين، وفي اماكن اخرى، فهل تجرؤون على مغادرة مراياكم الى شمسهم ام ستكتفون بالغناء لهم «الارض بتتكلم عربي»؟
وماذا اذن لو عبث طفل عابر بالحروف وقدم الباء على الراء مثلا، هل سيكون ارشدكم الى الحقيقة؟
|