Sunday 29th September,200210958العددالأحد 22 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

محاكمة البيروقراطية 1 ـ 2 محاكمة البيروقراطية 1 ـ 2
د. محمد بن صنيتان

كتب معالي الأستاذ عبدالرحمن السدحان في عدد الجزيرة 10945 يوم الاثنين 9 رجب على عموده (الرئة الثالثة) عن تلبس الإهمال للبيروقراطية. وقسم التسيب واللامبالاة في ضمير الموظف إلى حسي ومعنوي.
والمسار الأكاديمي والمهني لسدحان يجعل القناعة مصكوكة بحكمه ورأيه. فهو يتعامل مع مظاهر البيروقراطية من موقع عنق زجاجة الهرم الإداري.
والتداخل مع هذه المقالة يتأتي من أن الموظف ليس الطرف الوحيد في معادلة البيروقراطية. وليس هو القضية لوحده. بل تتعداه إلى كونها قضية مجتمع. سواء العاملين فيها أو المتعاملين معها من المواطنين والمقيمين والمستثمرين من الداخل أو من وراء البحار.
فالموسوعة الميسرة: تعرف البيروقراطية بأنها مجموعة الهيئات والأشخاص الذين يتولون الوظيفة التنفيذية في الدولة. وهي تعني تقسيم العمل وتحديد الاختصاصات، وتعيين الواجبات والصلاحيات والقواعد والروتين كل ذلك ينتظم شكل الهرم الإداري، فالبيروقراطية كاصطلاح علمي: هي القوانين والنظم والتعليمات الرقابية. وهي الآلية المثلى لإدارة الأعمال الحكومية الضخمة.
وهي كما يريد لها ماكس فيبر: ترشيد العمل الحكومي الضخم أو حتى القطاع الخاص. فهي تنظيم يقوم على السلطة الرسمية وتقسيم العمل وفقا لمستويات مختلفة قاعدتها الأوامر الرسمية بين الرؤساء والمرؤوسين، والتبادل الترددي بين الهرم والقاعدة وكذلك البيئة الحاضنة لها.إلا أن للبيروقراطية وجهها القبيح المتمثل بسيطرة الموظفين على مصالح الناس وإقامة المعابر الضيقة لخدمات المواطنين والتحكم في أفراد المجتمع الذين يحتاجونهم ابتداء من شهادة الميلاد حتى شهادة الوفاة.الانطباع العام من كافة المجتمعات نحو البيروقراطية هو سيطرة الموظفين والاهتمام بمصالحهم الشخصية. دون مبالاة بمصالح المنتفعين من الخدمة العامة سواء مواطنين أو مقيمين أو حجاج أو غيرهم رغم أنهم وجدوا من أجلهم.وهنا تتبدى للناس الظواهر السلوكية والإدارية والتنظيمية للبيروقراطية المتمثلة بمخالفة روح الأنظمة وانتهاج التعقيدات الشديدة واستغلال النفوذ وشيوع الواسطة والمحسوبية وتفشي ظاهرة المنافقين والشللية وحتى المزاجية. وكل ذلك انحراف عن المسار الذي تحدده القيادة لموظفي الخدمة العامة للوصول إلى هدف المسئولية الوطنية وهو تحقيق الرضا العام لجمهور سكان الدولة مواطنين ومقيمين.إن البيروقراطية بوجهها السلبي جماعة رسمية انحرفت عن الطريق المحدد لها للوصول إلى الأهداف المحققة للمصالح العليا. وهي فئة تحظى بسمعة سيئة ليس لدى عامة الناس بل حتى لدى المثقفين منهم.فكانت مادة للعديد من الكتابات العلمية والصحفية وكاد يتخصص فيها بعض الأكاديميين السعوديين.فالتعسف في تطبيق القواعد والإجراءات والمبالغة الرسمية بدافع الجهل واللامبالاة بدافع مشيئة المصلحة الشخصية أو الملل من الأداء العام والإحباط كاستجابة سلوكية لشعور الموظف العام بالحرمان من الإشباع الوظيفي لعدم ترقيته وعدم إتاحة الفرصة له وإتاحتها لغيره من زملائه تجعل منه نفسا مشبعة بالإحباط والاكتئات مما يدفعه للانحراف المعنوي والحسي عن الهدف الأسمى لتحقيق الأهداف الوطنية العليا.
إن التوظيف والترقي وتكافؤ الفرص على اساس الجدارة والاستحقاق أمر على درجة عالية من الأهمية في قطع دابر الفساد ولكن من المستحيل واقعيا تحقيق تلك الأمنية الوطنية حتى لدرجة 85% وذلك في كل المجتمعات حتى الراشدة منها.إن المعايير الاخلاقية للمجتمع هي التي تكيف معايير السلوك للموظفين على اختلاف درجاتهم. وهذا هو المهم في خلق مناخ عام يتشكل فيه المواطن والموظف.فعلاج الأمراض الإدارية يقتضي تشخيصا يعتمد على الإصلاح الاجتماعي والتأثير التربوي والأخلاقي والقدوة التي تتحدر من مواقع النخبة إلى أن تصل إلى رئيس القسم (أصغر وحدة في الهرم الإداري) ومن التنشئة الأسرية ومن مؤسسات التربية التعليمية والاجتماعية ومن منابر المساجد الجامعة التي تغذي الرأي العام، وتصنع الضمير على قاعدة تبجل العمل وتقدره حق قدره، وتعزز العفة في نفوس الموظفين العموميين والبحث عن القياديين والرؤساء والمدراء والقدوات الذين اذا فقد منهم الورع والتقى والصلاح، فلابد أن يكونوا من أهل المروءات والقيم الذين يخافون العيب، ويقدرون شرف السمعة وتحمرّ وجوههم خجلا إذا تعرضت سمعتهم أو سمعة عائلتهم أو سمعة قبيلتهم أو سمعة حارتهم أو سمعة مدينتهم للخدش. وتجل وتعلي قيمة الأداء والعطاء وزيادة الإنتاج وتقديم الخدمة كما يريدها المشرع، فالدين الإسلامي ينشيء المواطنين على حب العمل وإتقانه، وحسن التعامل مع الآخرين والتفاني في خدمتهم (الخلق عيال الله أنفعهم أنفعهم لعياله)، والقيم العربية تغرس في نفوس الأفراد قيمة المدح والتضحية والتفاني في خدمة المجتمع. وتحقر قيمة العيب وتنبذ الرياء والتزلف والتسلق لفائدة المصالح الشخصية.
من كل ما ذكر يتضح لنا أن البيروقراطية في المجتمع السعودي قدغدت معطلة للتنمية، وذلك دفع بعزوف الاستثمار الأجنبي، فالمستثمر يتهيب الإقدام على مشاريع طويلة الأجل بالمملكة لمعرفته بدهاليز البيروقراطية وتعقيداتها، لأنها تمثل أمامه عقبة كأداء ما لم يكن عارفا بمسالك أزقتها، ولات يقدم الواحد منهم على الاستثمار إلا حينما يتأكد له قدرته على تطويعها.
إن المعوقات البيروقراطية التي تواجه الاستثمار طويلة ومزعجة، وقد تدرجت شكوى المستثمرين الأجانب والمشاريعيين الوطنيين من الهمس إلى الصوت المسموع من معوقات كثيرة. كعدم السماح بتداول الأسهم والسندات لغير السعوديين إلا بشكل محدود، وغياب بورصة لتداول الأوراق المالية، وطول الإجراءات الخاصة بمنح التصاريح، وإنهاء التسجيل لدى الجهات المختصة، كما أن البنوك المحلية لا تفتح حسابات لغير السعوديين إلا بوجود كفيل.وهذا الإجراء غاية في حرمان البنوك من السيولة والاستثمار إضافة إلى ذلك عسر الإجراءات المتعلقة بالخروج والدخول من وإلى المملكة، ومنع تملك الأراضي والعقارات، علاوة على ضعف البنية التحتية المتكاملة في المدن الصناعية مثل الماء والكهرباء والهاتف وغيرها، إضافة إلى قصر فترة الإعفاء الضريبي، والتي يكون حدها الأعلى عشر سنوات، وهذه المدة لا تكفي لإغراء وجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وعدم السماح لذوي الموظفين العاملين لدى المستثمر الأجنبي بالقدوم على كفالته أو كفالة الشركة، ومنع حتى الزيارات السريعة، ومنع الزوار التجاريين ورجال الأعمال من اصطحاب زوجاتهم وأولادهم أثناء إقامة المعارض أو الزيارات بالإضافة إلى غياب مكاتب موحدة لممثلي المصالح الحكومية للتراخيص للمشروع. فكل هذه العراقيل البيروقراطية أصبحت أخطبوطا يلتف حول الاستثمار الوطني والأجنبي، ويشل حركته. ويضعف قدرة السوق الوطنية على امتصاص السيولة وجذب المال الأجنبي القادر على إيجاد الوظائف لطالبي العمل من السعوديين وتوسيع قاعدة التدريب واستقدام التكنولوجيا بكفاءة وتعزيز الادخار الوطني.
وقد تكونت قناعة لدى المتعاملين مع البيروقراطية أن إنجاز المعاملة يعتمد على طبيعة العلاقة التي يقيمها صاحبها مع الطرف البيروقراطي المعالج، أو أن يضمن واسطة يلجأ إليها عند الحاجة.
إن الفضاءات التي اخترقتها البيروقراطية تزداد أهميتها يوما بعد يوم، ولم تعد بموجب ذلك ممارسة إدارية راشدة تيسر على المواطنين حل مشاكلهم المطروحة بسرعة وفعالية وانجاز شؤونهم ومصالحهم حتى تأخذ طابعها النظامي.
واعترافا للحقيقة ونسب الفضل لأهله. فإن الزعامة الوطنية في سنوات الرخاء التنموي عبدت مسالك كثيرة للحراك الاقتصادي والمالي. فأتاحت لعموم المواطنين امتلاك العقارات التي نزع الكثير منها وعوضوا بأثمان عالية، مما ساهم في حراكهم الاجتماعي الصاعد، فأصبح الفلاحون عقاريين.
وأضاف التجار إلى تجارتهم الصناعة مستفيدين من القروض الصناعية، وتحول جلهم إلى مشاريعيين ووكلاء شركات عالمية كبرى.
كما حاول بعض المهنيين كالأطباء والمهندسين التحول إلى مجال الأعمال الحرة والاستفادة من الانفتاح الاقتصادي، إذ لم تعد تستهويهم الوظيفة وقطاعاتهم المهنية، وخصوصا الفئة التي كانت من أوائل من تنبه إلى مسألة القروض، ومبل الحكومة آنذاك لمساعدة المواطنين في محاولة خلق قاعدة اجتماعية عريضة للتنمية، فاستقال البعض أو فتحوا سجلات تجارية باسماء أقرباء لهم، أو زوجاتهم أو شركاء آخرين، للاستفادة من هذا الدعم الحكومي، والبعض منهم حولوا مهنهم الحكومية السابقة إلى مشاريع، وتحصلوا على قروض كبيرة، فالأطباء منهم أنشأوا مستشفيات تخصصية بلغت مساعدة الدولة لها ملايين الريالات، والأمر نفسه بالنسبة للمهندسين وكبار الصناعيين، وقد نجح الرواد منهم في الإثراء السريع، فتحولوا بين عشية وضحاها إلى مشاريعيين مستثمرين في ذلك رأسمالاتهم المعرفية التخصصية من خلال البعثات وانحداراتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
مما ساهم في حراكهم الصاعد. إلا أن البيروقراطية ضيقت ما أرادته القيادة أن يكون واسعا. ووسعت الهوة بين الطبقات رغم حرص القيادة ما وسعها على ردمه. من خلال إنجاز سياسة الأنصهار والذوبان الاجتماعي. ولكن البيروقراطية غدت هي المنتج للثروة والموزعة لها والمعيدة لتوزيعها في الآن نفسه.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved