Thursday 26th September,200210955العددالخميس 19 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

المأزق الذي وقع فيه هو موت النظرية ونفادها المأزق الذي وقع فيه هو موت النظرية ونفادها
عبدالله الغذامي: التنازل عن النقد الأدبي نوع من الغباء الثقافي والحضاري «1 - 2»

حوار أجراه : عبدالله السمطي:
تغير المشهد تماماً، صار أكثر ضجيجاً وفي الآن نفسه أكثر ارتباكاً، وعمّق من بين ما عمق أزمة المثقف العربي، ولن ننأى كثيراً عن الأحداث الأخيرة ومنها 11 سبتمبر بل إن هذا الحدث أحد النتائج وليس الأسباب لعمق أزمتنا الحضارية.
د. عبدالله الغذامي يتناول في هذا الحوار تداعيات هذه الأزمة، ويحدق بعين ناقدة في بعض المسلمات الفكرية، وهو يطالب في هذا الحوار بتغيير طريقة معايشتنا للواقع الإنساني ويحدد مآزق مصطلحاتنا الفكرية، فيما يحدد مأزقه النقدي في مواجهة النص، ولماذا تحول للنقد الثقافي، ونظرته للثنائيات الفكرية الاصطلاحية في واقعنا، ويرد على من يرى انه يختار أسوأ النصوص الشعرية لتحليلها، ويطالب الأدباء الشباب بعدم الانشغال بمن يكتب عن أعمالهم الإبداعية من النقاد، هكذا تحدث الغذامي فماذا قال تفصيلاً؟
هناك من سمع بالنقد الثقافي فظن أنه الكتابة عن البلوت والشطرنج
* في مطالع ألفية جديدة تنبث فيها جميع إنجازات المعرفة المختلفة، كيف يواجه المثقف العربي محنة هذا الزمان في عصر تطرح فيه المصطلحات المتتالية: الكوكبية، العولمة، الطريق الثالث.. أين المثقف العربي من هذا الزخم المعرفي؟
إذا أردنا ان نتحدث عن محنة المثقف العربي لابد ان نضع في أذهاننا هذا السؤال معكوسا، بمعنى لو اردنا ان نتحدث عن محنة المثقف الأمريكي هل فعلا سنشعر ان المثقف الأمريكي يعيش أزمة مماثلة؟ طبعاً الجواب وبسرعة: لا.. مما يعني ان المثقف العربي متأزم في أزمته هو نتيجة تأزم يعيش هو في داخله وهذا يعني اننا مازلنا رهيني الثقافة التقليدية، وعندما أقول التقليدية لا أقصد المعنى التقليدي بالمعنى البسيط والسريع، ولكن أقصد كل نوع من الثقافة يحرص ان يظل متمسكاً بثوابته التي كانت بين يديه في فترات مضت، ويظل الزمن أمامه يتغير ولا يريد هو ان يتغير يريد ان يثبت الزمن، وهذه مستحيلة، وهي هي العقبة الحقيقية ان الزمن يتغير ونحن لا نريد للعالم وللزمن ان يتغير، لاحظ ان المشكلة ليست في اننا نحن نتغير أو لا نتغير المشكلة أعوص من ذلك بكثير، المشكلة اننا لا نريد للعالم وللزمن ان يتغير وهذا مستحيل، الزمن والعالم سيتغير، إذاً علينا ألا نقول ان نتغير، بل علينا ان نفهم ان الزمن والعالم يتغير، ونتعامل مع هذا الأساس، لكن ان نظل نعيش في الحنين إلى الماضي وإلى شرط الثقافة الماضية، وحيث اتحدث عن الماضي فأنا أتحدث عن الستينيات والسبعينيات التي صارت ماضياً الآن، أي نحن لا نتحدث عن الماضي منذ قرون، نحن نتحدث عن الأيام القليلة الماضية التي صارت ماضيا لابد فعلاً ان ندخل للعصر بشجاعة وبقوة، هذا هو الحل الوحيد ولا حل سواه، أما الذي لا يريد ان يدخل إلى العصر فحتما سيظل في هذه المعاناة والتي ستظل بينه وبين ذاته، وستظل الأسئلة التي تطرح اليوم هي التي طرحت قبل 20 أو 50، أو 70 سنة، وسنظل على هذا الوضع ما لم ندرك ان الزمن والعالم متغير، واننا مع تغير الزمن والعالم لابد ان نفهم هذا التغير ونتعامل مع الواقع الإنساني بناء على هذه التغيرات، وهذا هو العنصر الأهم الذي يميز ثقافة هذه المرحلة عن ثقافة المراحل الماضية.
في الماضي كان الفكر والاطروحة والثقافة تأخذ مدى قرون، افلاطون ظل هو افلاطون على مدى قرون، الفارابي ظل هو الفارابي على مدى قرون، وظل ارسطو المعلم الأول والفارابي المعلم الثاني، أما الآن الأمر يتغير وبسرعة، المفكر نفسه داخل ذاته يتغير بين عقد وآخر، هذا على مستوى الفرد، فما بالك على مستوى الأمم والمؤسسات والمقولات والأفكار والتجددات، نحن في زمن الما بعد، لسنا في زمن الحداثة، لسنا في زمن البنيوية أو الاستعمار، نحن في زمن ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الاستعمار، أيضاً نحن في زمن ما بعد العولمة، لكن هذه الما بعد لا تلغي الشيء الذي سبق عليها مباشرة، هي تفتحه على إمكانات ومجالات أخرى، نحن يجب علينا في الوقت الذي نتمسك بأصولنا العربية والإسلامية ينبغي ان نتحرك مع زمننا دون ان نقتلع انفسنا من جذورنا، هذه معادلة ان أي مفكر يعي انها قابلة للحل لكن المسألة ليست بيد الأفراد، فالأفراد يجدون حلولا لها، بقي ان تجد المؤسسات والأمم حلولا لها وتقبلها.
* في أفق هذا الكلام ما هي أبرز السبل التي يمكن ان يسلكها المثقف للوصول إلى مرحلة التغير أو مرحلة التعايش مع العصر؟ نعلم ان معظم ما يطرح في الثقافة العربية الإسلامية تركيب ثنائي دائماً: الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، أم ترى ان الالتزام بهذه الثنائية ضروري؟
الثنائيات دائماً أقول عنها انها ثنائيات غبية، أي انني منذ زمن صدور كتابي: «ثقافة الأسئلة» أشدد على هذه النقطة، إذا وضع الإنسان نفسه في ثنائيات انتهى، لأنه سيضع نفسه أمام خيار قاس وقاطع وقطعي وهذا ليس هو الزمن وليس هو التاريخ، التاريخ هو دائماً في المرحلة التي تستطيع ان تقفز من فوق الثنائيات، أو ان تلغي الثنائيات أو ان تتجاوزها، دائماً هناك شيء ثالث ورابع وسادس وعشرون، يجب ألا نقف عند واحد واثنين، يجب ان نتجاوزها إلى أرقام أخرى، وحلول أخرى، وأفكار أخرى، والمثقف الحق يدرك هذا، وأنا لا أعتقد ان المثقف الحقيقي يعيش في أزمة من حيث ان التصورات التي يملكها لا تجد طريقها إلى التنفيذ، هذه هي المعضلة، كذلك هناك أنواع من المثقفين تنقصهم إما الشجاعة النفسية أو القدرة العلمية، أو الشجاعة العقلية في أن يجدوا حلولا لمعضلاتهم الخاصة، وبالتالي لمعضلات أممهم، لكن المفكرين الذين يستندون إلى أطروحة وطنية يحملون ويملكون حلولاً، لكن المعضلة تتمثل في ان حلولهم هي حلول أكاديمية مثالية لا تصل إلى أدراج المنفذ الذي يستطيع ان ينفذها، وهذا شيء أدركه التجار واستطاع ان ينجح فيه رجال الأعمال، وهو الشيء الذي لم ينجح فيه المفكرون، رجال الأعمال استطاعوا ان يجدوا حلولا عصرية راقية جداً تجعل رؤوس اموالهم تتحرك على مستوى العالم، ويستثمرون أموالهم بطريقة راقية جداً، والمستثمر العربي الآن دخل ندا للمستثمر العالمي، ونجح في ذلك، طبعاً لأن هنا تكمن المصلحة المادية المباشرة، والأمم والمؤسسات الرسمية عادة لا تجد حرجاً أمام حركة الأموال، لكنها تجد حرجاً أمام حركة الأفكار، فلو جرت معاملة الأفكار مثل معاملة الأموال لوجدنا في الأفكار مثلما وجدنا الحلول في الأموال.
* طوال 100 عام ظهرت بعض الشعارات في الثقافة العربية الإسلامية مثل: النهضة، ثم الثورة، وحركات التحرر الوطني، ثم من الثورة إلى الصحوة، فما هو المصطلح الذي ترى انه يناسب هذه المرحلة الجديدة في الثقافة؟
المصطلح الذي يمكن ان نسميه مصطلحا هو الذي ينجح في تحقيق مشروع ما، وإلا على الاحتمال الآخر نحن ما زلنا في مرحلة هذه المصطلحات مجتمعة، ومازلنا في مسألة النهضة، والثورة، والصحوة، ومسألة التنوير والتحديث كل هذه مازالت لأنها جميعها مجرد عناوين وطموحات ومشروعات، لكنها لم تتحقق على مستوى المؤسسات الاجتماعية والبيروقراطية والعملية وعلى مستوى الناس وحياة الناس، لا تستطيع ان تسمي حقبة من حقبنا المتأخرة بأنها: حقبة النهضة، ممكن ان تقول حقبة اكتشاف الغرب، حقبة التعرف على الآخر، حقبة الاستعمار، حقبة ما بعد الاستعمار، حقبة الصراع العربي الإسرائيلي، هذه مسميات صحيحة لأنها واقعية، لكن مصطلحات: النهضة، الثورة، الصحوة هذه جميعها لم تصل إلى مستوى العمل المباشر الفعلي بحيث نتجاوزها. العمل الذي لم ينجح كمشروع عمل كيف يجري تجاوزه، أو كيف حتى الدخول إليه أصلاً، فهذه لاتزال عناوين كتب أكثر منها عناوين عمل.
* هل ترى أن الشخصية العربية تحقق وجودها الأمثل في ظل وجود عدو أو مثير خارجي؟
أنا أعتقد انه ليس للعربي فحسب، بل أي أمة من الأمم، كاليابان والصين وألمانيا، فالتجارب التي مرت على هذه الأمم من استعمار طويل، وحالة اكتساح كامل مثل ألمانيا بعد الهزيمة، فالعرب أيضاً شأنهم شأن أي أمم من أمم التاريخ، وجود عنصر التحدي هذا يستثير قوى الأمة ومنها القوى الكامنة بداخلها، لكي تبدع لكن الاشكالات تحدث حينما يتدخل الناس في هذا الإبداع، ويسرقون قدرات الأمة على هذا الإبداع، كأمثلة: حين تولى العسكر في الدول العربية الحكم اعتقد انهم سرقوا مشاريع النهضة وغيروا التاريخ، بصيغة أخرى انهم سرقوا التاريخ، هؤلاء العسكر انا اعتبرهم لصوص التاريخ، لأنه لو تركت الشعوب العربية لتنمو نموا تلقائيا لوجدنا نموا حقيقيا خاصة في بيئات مثل مصر والعراق تتبعها دول الشام وبعض دول المغرب، هذه كانت قبل عقود من الآن كانت تحمل مبشرات قوية لنمو حقيقي.
لنأخذ الجامعة كمؤسسة، كانت الجامعة الأهلية المصرية قبل 90 عاما، ومشروعها الضخم، وماذا أفضت إليه الجامعات العربية جميعها الآن، فالمقارنة مزعجة جداً، الأرقام كثرت لكن العلم تلاشى فليس هناك مشروع علمي، وقس على ذلك بقية المؤسسات سواء العسكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو مؤسسات الديمقراطية أو مؤسسات التفكير.. إلخ، واعتقد ان العسكر جنوا جناية خطيرة جداً على النمو الطبيعي لأنهم حولوا النمو إلى حالة قسرية مثل الولادة القسرية التي تخرج الطفل وعمره 3 أشهر بدلاً من ان تتركه ينضج في داخل الرحم، حينئذ تخرج طفلاً كسيحاً مآله إلى الموت، فأعتقد ان هذه هي المشاكل التي تثار، وأعتقد ان التحديات التي مرت على الأمة العربية لم تؤد دورها الذي يجب ان تؤديه حقيقة كاستجابة للتحدي بسبب تدخل عوامل أخرى معظمها داخلي وبعضها خارجي، لكن معظمها داخلي فأفسد نمو الأمة.
والدليل على ذلك اتفاقيات السلام مع إسرائيل الآن، انظر موقف الشعوب العربية من هذه الاتفاقيات، كم عمر السلام ما بين مصر وإسرائيل؟ انظر للشعب المصري ما موقفه من التطبيع، وانظر للشعب الأردني أيضاً، وكذلك لو حدث شيء في دول عربية أخرى؟ لاحظ ان نمو الشعوب شيء ونمو المؤسسات الرسمية شيء آخر، وليس هناك تناسق بين المؤسستين: الشعبية والرسمية، لكن لو كنا في وضع طبيعي لصار هناك تناسق بين المؤسستين. طالما ان هذا الانفصام قائم فسنظل في هذه الدوامة التي نجد ان في أذهاننا كخواطر اجابات عليها كثيرة لكن على مستوى الواقع ليس هناك بوادر عملية.
* ننتقل من مقام الفكر إلى مقام النقد والأدب.. في مسألة اطروحات د. الغذامي كان اول طرحه عاما: البنيوية، ثم طرح مصطلحات خاصة به: النقد الثقافي، وثقافة الجسد أو ما جسده كتاب «ثقافة الوهم».. هل السياق المكاني له دور في طرح هذه المصطلحات لديك.. أم انها سياقات تبرر وجودها من خلال اشتغالات مسبقة ومؤسسة؟
لا أتصور أبداً لأي مثقف من المثقفين ان يكون محكوما بالمكان، لأن الثقافة في أصلها لا تنتمي للمكان بل تنتمي للعقل الإنساني البشري، لذلك تجد انك في علاقة وثيقة مع امرئ القيس من جهة وافلاطون من جهة، وجاك ديريدا من جهة أخرى، وتجد ان الفكر الإنساني في كل مناحيه البعيدة والقريبة سواء طاغور كشاعر هندي أو أي مفكر صيني أو افريقي أو أوروبي أو عربي قديم أو حديث كلها تلتقي في بوتقة واحدة وهي رأس الإنسان الذي خلقه الله ليكون بوتقة قادرة على صهر كل ما يأتي إليها، وإلى تحويله عبر تمثله إلى مادة خاصة، فأنا اعتقد ان الفكر مهما كانت مصادره يتحول داخل ذهن المفكر إلى مادة خاصة، مثلما يتحول الطعام في عمليات الهضم إلى خلايا داخل الجسم، فالخلايا الفكرية هذا شأنها.
فيما يتعلق بي في «الخطيئة والتكفير» الذي طرحته في الواقع هو ما يتعلق بما بعد البنيوية لم يكن بنيوية بدءاً من العنوان الذي يشير «من البنيوية إلى التشريحية» والتشريحية مرحلة ما بعد البنيوية، وكان التحليل يصب في تلك النقطة، منذ الخطيئة والتكفير وأنا معني بسؤال ما بعد البنيوية الذي يطرح هذه النقطة الأساسية حول نصوصية العالم، وكون العالم نصاً، والسؤال الأكبر هو الإنسان بوصفه لغة، ويندرج تحته مجموعة القضايا التي بالنسبة لي أفضت أخيراً إلى طرح سؤال: النقد الثقافي والذي يعتبر تتويجا للعملية ليس تغييرا بحيث يكون الغاء للتجارب الماضية، بل هو نمو للثمرة التي أثمرت عنها مجموعة الاجتهادات والمجهودات الماضية، واعتقد عبر النقد الثقافي أصل إلى الحل الذي كنت أتمناه، لمعضلة العلاقة بين الإنسان والنص.
* بالنسبة للنقد الثقافي، بالضبط ما هي مفاتيح النقد الثقافي؟ إذا كان المنهج عبارة عن مجموعة من المصطلحات والأسس العلمية المحددة، فما هي أسس النقد الثقافي؟
هنا هذه المشكلة بالنسبة لي في هذا الحديث بالذات، انت تسألني عن مشروع رأى النور منذ أشهر، وكتابي «النقد الثقافي» يحمل الاطروحة النظرية المنهجية التي اصطنعتها لنفسي ولمشروعي، لكن الذي حدث في تجربتي انا، ان التطبيق سبق التنظير، فمنذ ظهور كتابي «الكتابة ضد الكتابة» عام 1987م بدأت عندي معضلة: السؤال الحرج وهو ان النقد الأدبي في شرطه ووضعه كما هو عليه لم لا يعطي الاجابات التي أتمناها، ومنذ كتابي هذا كان هذا الهم فاستمر منذ ذلك الحين حتى الآن، واستمر يتدرج ونتجت عنه كتب: رحلة إلى جمهورية النظرية، المرأة واللغة، ثقافة الوهم، لكنه أخيراً نضج بين يدي كنظرية وكمنهج، وللأسف لا استطيع شرح ذلك في مقابلة صحفية فالاجتزاء يفسدها.
* هل اشتغالاتك على مفاهيم مثل: المرأة اللغة هل هو نوع من الهروب إلى مناطق أخرى من ضجيج الأدباء؟
أنا أعتقد ان مهمة النقد الأدبي كعلم معني بعلم الجماليات وجماليات النص اعتقد انه على هذا المستوى مشروع قد أنجز، ولم يعد بحاجة إلى جهود متكررة، كيف اقول قد أنجز أقصد ان الإمكانات التي نملكها نحن كجيل، ولا أتحدث عن أجيال قادمة، أنا أقصد الجيل الذي هو ماثل أمامنا الآن، هذا الجيل خلال العقود الثلاثة الماضية أنجز مهمته حول القصيدة العربية، في جمالياتها، في أبعادها الدلالية، في إمكانات الخطاب، بحيث ان أي كلام يقال الآن عن أية قصيدة مهما كانت جيدة سيكون مماثلاً لكلام قد قيل من قبل أي ان مساحة السبر ومساحة القول استنفدت، فأي ناقد الآن سيأتي ويقف على قصيدة مهما كانت جديدة سيتحدث عن الانزياحات وأنواع الدلالات وعن الاختراقات الإبداعية، وفضاء الدلالة وغيرها، هذا الكلام الذي قيل من قبل عن نصوص ما، فالمنظور النظري والمنهجي والنقدي واحد، لكن المؤدى مختلف، لكن المؤدى النظري هو هو، هنا أقول بالنسبة للنقاد المعنيين بالتطبيق النقدي لا مشكلة عندهم لأن النصوص غير نهائية، وبالتالي يصبح التطبيق غير نهائي، لكن بالنسبة للنقاد المنظرين وأنا منهم تصبح النظرية التي اشتغلنا عليها في السنوات الماضية استنفدت كنظرية في قراءة النص، واستخدمت، فبقي حينئذ الناقد الذي يريد ان يكون حيويا في تجدده النظري، وبالتالي الاجرائي التطبيقي. هو سيشعر بالملل لأنه يؤدي أدواراً أداها من قبل، هذا هو المأزق الذي وقعت فيه وبدأت أبحث عن حلول، والحل الذي وصلت إليه هو ان انقل النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، بمعنى انني لا أتنازل عن النقد الأدبي لأنه انجز على مدى أكثر من 20 قرنا، والعالم تدرب وجرب وتطور فهو منجز ضخم التنازل عنه يصبح نوعا من الغباء الثقافي والحضاري، إذاً ما الحل طالما انني أقول: إنه من الغباء الحضاري والثقافي ان نتنازل عن منجز أنجز منذ قرون، هذا يعني انني إذا نقلت النقد الأدبي من حقله الأدبي إلى الثقافي، أنا انقل التغيير هنا كحقل وليس كأداة أو مهارة، سيظل النقد نقداً، لكن بدلاً من ان يكون نقدا ادبيا يكون نقداً ثقافيا، هذا يقتضي إجراء تعديل وتطوير، وشغل ليس بسيطا على الأدوات النقدية ذاتها، لكي تنتقل من كونها أدوات نقدية أدبية إلى ان تكون أدوات نقدية ثقافية، هذه المعضلة صعبة جدا على أي أحد مجرب في فعل التنظير واستحداث منهج وجعل هذا المنهج قابلا للاجراء، ولهذا السبب قررت ان اشتغل على مستوى التطبيق أولاً قبل التنظير، ظللت اشتغل على مدار ال8 سنوات الماضية إلى ان وصلت إلى مجموعة من الأدوات والمقولات والمنظومة المصطلحية التي اعتقد انني جربتها على مدى طويل وبالتالي وصلت إلى بعض عيوبها كي اتجنبه وبعض حسناتها كي استثمره، وحاولت استثمارها في كتاب النقد الثقافي، لكن تظل هي نقلة أساسية ونوعية وجذرية، مشتركة من الباحث من جهة، وأدوات معه، أي أنا وأدواتي ننتقل معا، فيحتاج إلى ان نجري تعديلات وتغييرات على الاثنين، على الباحث وعلى الأدوات، لكن ليست انتقادا للباحث بمفرده بمغادرة أدواته إلى عالم آخر بلا أدوات.
انا هنا انتقل أنا وأدواتي، لكن أحدث تغييراً على ذاتي وعلى أدواتي، لكي تتحول وتكون قابلة فعلاً لأن تتسمى نقداً ثقافياً بدلاً من ان تسمى نقداً أدبياً، وإلا هناك من سيقول: انك تسمي عملك نقداً ثقافياً وان ما تمارسه هو نقد أدبي، ومن هنا يصبح المشروع فاشلاً، فلابد اذاً ان نحدد النقلة المطلوبة.
* هل هناك ثمة علاقة بين النقد الأدبي والثقافي بمعنى علاقة جنس بنوع؟
لو أخذنا الشجرة الأصلية وتفريعاتها يمكن ان نقول النقد اللغوي والنقد الألسني والنقد النصوصي، وهي في هذه الحالة كلها مترادفات بمعنى واحد، ولقد استخدمت مصطلحي النقد النصوصي والنقد الألسني، وهذا يتطرق بنا إلى نقد أدبي ونقد ثقافي، بمعنى ان المصدر الأصل هو النقد الألسني أو اللغوي، لأن الإنسان لغة، وأي عمل في الثقافة أو الإنسان هو عمل على اللغة، والثقافة هي تعبير لغوي هي واحدة من تجليات اللغة، ولا يمكن للثقافة ان يكون لها أصل خارج اللغة، فاللغة هي الكائن الملموس الذي عبره سنلمس الأشياء الأخرى فبالتالي نحن نتحدث عن النقد الألسني عن النقد النصوصي عن «اللغة» ويتفرع هذا إلى مهارات عديدة، واحدة منها النقد الأدبي، وأخرى منها النقد الثقافي كما هناك السيميولوجية، كما هناك التشريحية كما هناك الانثروبولوجيا، وعلم اللغة، وعلم اللغة النفسي، النقد الثقافي يدخل كواحد من هذه المهارات، لكن ليس هو إياها وليست هي إياه.
وربما تجد ان كل هذه الفروع التي ذكرتها تستخدم الأدوات ذاتها لكن تقوم بتطويرها وتطويعها لمنهجيتها الخاصة.
* أليست قراءة رواية ما تهتم بالمكان مثلاً روايات نجيب محفوظ باعتبار انها تتعرض لأماكن ولأشخاص، ومظاهر اجتماعية ورؤى ثقافية عبر الناقد الأدبي يضرب فكرة النقد الثقافي؟
أسمح لي بالقول إن الرواية تستطيع ان تقرأها من زاوية النقد الأدبي ومن زاوية النقد الثقافي لكنهما مختلفان اختلافاً جذريا، فليس كل حديث عن مظهر ثقافي هو نقد ثقافي، فمثلاً لا يجعل الحديث عن الألبسة والأطعمة نقدك نقداً ثقافياً، وليس كل حديث عن قصيدة يجعل هذا الحديث نقداً أدبياً، من الممكن ان يكون قدرات أدبية، أو قراءة انطباعية أو قراءة تاريخية، أو تاريخ أدب، المسألة ليست في المادة المقروءة المسألة هي في المصطلح والنظرية والمنهج، وهو الذي يقرر السمة والصفة، مثلما نفرق الآن مثلا بين الايديولوجية والبنيوية والتشريحية.
فليس الحديث عن شيء ما، مثلما نقول: الحديث عن الصين لا يجعلك صينيا، كما ان الحديث عن الصين لا يجعلك مستشرقاً بمعنى من المعاني أو مؤخراً، لأنك تتحدث عن الصين وحديثك هو الذي يجعل لك منهجاً، فالمنهجية هنا تنتسب إلى الأداة والنظرية وطرائق النظر وتوظيف الرؤية وليس التحدث فحسب عن موضوع يوهم بأن الموضوع نقد ثقافي، ونعرف ان كثيرين وقعوا في هذا المأزق، حين سمعوا بالنقد الثقافي، فصاروا يصفون أشياء كثيرة بأنها نقد ثقافي، ظنا منهم ان مجرد الحديث عن شيء مثل: البلوت أو الشطرنج يعد نقدا ثقافيا، لأن البلوت أو الشطرنج ليس شعراً فيظنون ان الحديث عنهما نقداً ثقافياً، أنت من الممكن ان تتحدث عن «قفا نبك» لامرئ القيس من زاوية النقد الثقافي، مثلما تتحدث في مرة من المرات عنها من زاوية النقد البنيوي أو النقد الأدبي البحت أو النقد الاجتماعي أو الايديولوجي، فالنقد الثقافي علم بذاته وليس مجرد ممارسة.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved