تشير ردود الأفعال الأمريكية وتصريحات الرئيس بوش وباول وكونداليزا رايس ورامسفيلد، والاجتماعات والشهادات أمام مجلس الشيوخ الى أن قبول العراق بعودة المفتشين قد لا يجنب العراق ضربة أمريكية.
يبدو ان العراق هذه المرة لن يتعرض لعاصفة صحراوية كما حصل في عام 1991م بل ربما يتعرض لاعصار مدمر، وهناك فرق بين العاصفة والاعصار، العاصفة ربما تكون نتائجها وخسائرها محدودة وربما محصورة بحيز مكاني ذي مساحة محدودة وزمنها محدود أيضاً، ولكن مشكلة الاعصار ان نتائجه وتبعاته لا تقتصر على حيز مكاني صغير وإنما يطال مساحات أوسع وأعم.
صحيح ان موقع عين الاعصار هو المتضرر الأكبر ولكن أضرار الاعصار تطال اماكن بعيدة عن عين الاعصار، هكذا سيكون الحال لو تحرك الاعصار الامريكي على العراق.
لقد ارتكب النظام العراقي حماقات متعددة ومارس عدوانا سافرا على الكويت عام 1991م واكتسب عداءات متعددة من كثير من الدول العربية والعالمية، ولكن الصحيح ايضا ان العقاب كان شديداً وقاسياً وطال أطفالاً ونساءً وطال شيوخ العراق. وقضى مئات الآلاف نحبهم بعد دحر العدوان العراقي عن الكويت بسبب نظام صدام وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العراق، واعترفت اولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابق صراحة بأن موت مئات الآلاف من الأبرياء العراقيين يمكن تبريره في سبيل تمرير السياسة الأمريكية والمخططات الأمريكية.
إن تاريخ الأمم المتحدة لم يشهد قرارات تعسفية بالشكل الذي طبق على العراق ولم يتم إجراء أي تفتيش على أي دولة في العالم على أسلحة الدمار الشامل كما جرى في العراق، والسبب في ذلك واضح لا لبس فيه، وهو ان العراق بلد عربي أصبح في نظر الأمريكيين والغرب يهدد أمن اليهود في فلسطين التي هي بمثابة رأس حربة لأي تحرك للغرب ليس فقط تجاه الأمة الإسلامية والعربية ولكن تجاه روسيا والشرق الأقصى بشكل عام، كما ان تنامي قوة العراق أصبحت في نظر امريكا تهدد مصالحها الاقتصادية في منطقة الخليج، لم يدرك العراق عواقب عدوانه على الكويت كما انه ظل لمدة 12 عاما على النهج نفسه في الخطاب السياسي مستخدما الألفاظ نفسها منذ عقد الستينيات، لم يظهر مرونة في موضوع الأسرى ولم يواكب التغيرات والتوجهات بعد الحادي عشر من سبتمبر. لم يحاول ان يستبق التغير في الموقف الأمريكي الذي بعد ان كان يطالب بعودة المفتشين أصبح له شروط ومطالب جديدة، وبغض النظر عن شرعية هذه المطالب أو عدمها فإن تسارع الأحداث كان يتطلب من العراق الموافقة على عودة المفتشين منذ وقت مبكر، النظام العراقي لم يتعلم من الدروس السابقة التي كان يناور ويحاور سياسيا ثم ينتهي الأمر بالضغوط والتنازل عن المطالب برمتها، وهذا ما حصل في موافقته الأخيرة لعودة المفتشين دون شروط وكان بالإمكان في الحوار الذي جرى مع كوفي عنان قبل شهرين في جنيف ان يقبل بعودة المفتشين وكان بالإمكان ان يكون الوضع اخف مما هو عليه الآن. إن جميع الدول العربية على كل حال ترغب في ان تكون منطقة الشرق الأوسط منزوعة من أسلحة الدمار الشامل، ولكن ما يحصل هو تطبيق القرارات على العراق والدول العربية وغض الطرف عن الكيان الصهيوني، إن ما يثير الغبن ليس لدى العراق وحده ولكن لدى كل الدول العربية من هذا الموقف الأمريكي.
إن محاولة الهجوم على العراق تأتي في تبعات أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولذا فإن الولايات المتحدة تحرص على نوع من الربط مع تلك الأحداث رغم عجزها عن ايجاد دليل واحد يربط العراق بتلك الأحداث أو بالقاعدة ولكنها تسعى هذه الأيام لمحاولة فبركة نوع من الربط بين تنظيم القاعدة والنظام العراقي، تم القبض على ما يسمونه زعيماً كردياً في هولندا يدعون انه المنسق بين النظام العراقي والقاعدة قبل ان يبدأ التحقيق ولكن كل هذا يأتي في حمى قرع طبول الحرب من قبل الولايات المتحدة ضد العراق وايهام العالم بضلوع العراق في الارهاب. أظهر الرئيس الأمريكي في خطابه انه الوصي الأمين على شعب العراق وعلى حقوقه الإنسانية وحقوقه السياسية بينما تقوم بريطانيا والولايات المتحدة بانتهاك سيادة العراق وقصفه يوميا خارجتين عن اطار الشرعية الدولية، من الذي قسم العراق إلى مناطق حضر دون قرار من الأمم المتحدة؟ أليست أمريكا وبريطانيا؟ يبدو ان الولايات المتحدة رجعت إلى الأمم المتحدة بعد تزايد الرفض لشن هجوم على العراق دون قرار من مجلس الأمن ولكن في الوقت نفسه الرجوع إلى الأمم المتحدة لا يعني ان الولايات المتحدة ستتخلى بالضرورة عن ضرب العراق.
الرئيس الأمريكي تحدث إلى المجموعة الدولية وأبدى مساوئ النظام العراقي وخطره على الحضارة وعلى الديمقراطية وعلى البشرية وتولى وزير خارجيته ومندوب الولايات في الأمم المتحدة مباشرة بعد الخطاب، اللقاءات والاجتماعات السياسية بالمندوبين الدائمين في مجلس الأمن وكذلك الوفود الأخرى الذين حضروا اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالتأكيد ما يدور في الحوار هو المصطلح نفسه «انتم معنا أو ضدنا».
إن قبول العراق بعودة المفتشين لم يعجب أمريكا ولا بريطانيا وعبروا عن شكوكهم ولم تقنعهم الرسالة المكونة من صفحة ونصف كما يقول كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة والموجهة من النظام العراقي لكوفي عنان حول استعداد العراق لقبول عودة المفتشين ومباشرة عملهم دون قيد أو شرط.
لا بد ان القادة السياسيين الأمريكيين والبريطانيين والعسكريين كذلك قد جهزوا خطة لضرب العراق. الرئيس الأمريكي يطلب ان تكون المهلة أياما وأسابيع وليست أشهرا وسنينا بينما خبراء نزع السلاح وعلى رأسهم بليكس رئيس هيئة التفتيش بالأمم المتحدة أوضح انهم يحتاجون لوقت لا يقل عن شهرين لكي يهيئوا فريق بكل احتياجاته من العتاد والأجهزة وترتيب السفر وطائرات الهيلوكوبتر والتنسيق مع العراق وإلى عام على الأقل لكي تتضح الرؤيا حول وجود أسلحة دمار شامل من عدمه في العراق، ويبدو ان الولايات المتحدة ستشكل الفريق وتعجل بمهمته وهذا ربما يكون أحد شروطها وان يكون اغلب المفتشين، ان لم يكونوا كلهم، من الولايات المتحدة.
إن إصرار الولايات المتحدة على الاطاحة بالنظام وبالقوة سابقة خطيرة رغم تجربتها في أفغانستان ولكن الأمر يختلف في المنطقة العربية ولابد ان يواجه بالرفض من كل الدول العربية خاصة بعد موافقة العراق على عودة المفتشين لأن هذا شأن داخلي عراقي.
إن الدول العربية مطالبة بالتحرك السريع في هذه الأيام دبلوماسيا والسعي إلى فتح قنوات حوار مع العراق لاقناعه بالتعامل مع عودة المفتشين بكل جدية طالما ليس لديه شيء يخفيه، والتفكير الجدي في العواقب ليس على العراق وحده ولكن على أمن الخليج واستقراره بشكل خاص والمنطقة العربية والإسلامية بشكل عام. ربما تكون العراق محطة ثانية بعد افغانستان ولا نعلم أين ستكون المحطة الثالثة وما هي نوع الخريطة السياسية التي تفكر فيها الولايات المتحدة للمنطقة، يجب ألا يترك العراق بحجة للولايات المتحدة كما يجب ألا يعول العراق كثيرا على رفض كثير من دول العالم تأييد الولايات المتحدة لضرب العراق لأن المواقف السياسية تتحول بين يوم وليلة إما بالترغيب أو الترهيب أو التمشي مع القرارات الدولية المدعومة بالإجماع وربما بالقوة وكذلك التمشي مع المصالح الاستراتيجية لكل دولة.
إن تقسيم العراق أمر وارد في حالة شن الولايات المتحدة هجوما على العراق ولا يستبعد ان تكافأ تركيا بشمال العراق لاستخدام نفطه والخروج من أزمتها الاقتصادية وقد لا يكون التقسيم مؤكداً، ولكن المؤكد هو وجود أمريكي في العراق لمدة طويلة الأجل بدعوى تحقيق الاستقرار في المنطقة وهي بهذا ستفعل كما تفعله في أفغانستان فلا استقرار ولا أمن وستفعل كما هو الحال في كوسوفو فلا دولة ألبانية ولا استقرار وستفعل كما فعلت في البوسنة فلا رحيل عنها ولا دولة بوسنية ولا كيان.
إن الوضع ينذر بالخطر والإدارة الأمريكية تحث الخطى نحو تحقيق سياستها بقوة القانون الدولي الذي تمليه ولذا لابد من التحرك، لأنه وبالرغم من قبول العراق بعودة المفتشين دون شرط فإن الولايات المتحدة مازالت مصرة على ان النظام العراقي يشكل تهديداً على الولايات المتحدة والحضارة الغربية. الرئيس الأمريكي مصر على تهيئة الرأي الأمريكي لشن الحرب ويعمل على اقناع الكونجرس قبل ان يذهبوا لاجازاتهم قبل الانتخابات بأن يفوضوه لاتخاذ قرار الحرب إذا دعت الضرورة.
إن العراق لابد ان يأخذ التهديد بالحرب من باب الجدية وليس من باب الضغوط لعودة المفتشين. إن رفض ضرب العراق لا يكفي ولن يجدي ما لم تنشط الدبلوماسية العربية مع بعضها ومع دول العالم الإسلامي والدول المحبة للسلام، كما لابد من التحرك تجاه الولايات المتحدة ومحاولة اقناعها بأن العراق جاد هذه المرة بعد التأكد من العراق من انه لن يعرقل فرق التفتيش، كما ان الأمر يتطلب محاولة اقناع أمريكا بأنه في حالة ضرب العراق فإن العالم العربي والإسلامي سيدرك ان الأمر يتجاوز تغيير النظام إلى انه صدام حضاري ضد الإسلام، وبأن حجة محاربة الإرهاب لم يعد لها معنى.
|