تعددت الأطروحات حول قرار تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، وانقسمت بين مؤيد ومعارض، فالجانب الذي يرى ضرورة بدء تدريسها في تلك المرحلة، يعتقد أن اللغة الإنجليزية أصبحت لغة المعرفة، وأن متطلبات سوق العمل، تستلزم التحدث بها بطلاقة، وأن الوقت حان للحاق بركب الغرب عبر إتقان لغتهم المسيطرة على ميادين المعرفة، أما الجانب الآخر فيرى أن بدء تدريسها في مرحلة مبكرة من التعليم، سيؤثر سلباً على تحصيله في اللغة العربية والعلوم الشرعية والقرآن الكريم.
أجريت دراسات عدة في هذا المجال، منها ما قدمه الدكتور محمد الظفيري من الكويت في بحث عن أثر إدخال مادة اللغة الإنجليزية مع اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، توصل فيها إلى أن إدخال اللغة الإنجليزية لها تأثيرات سلبية عدة على تعليم اللغة العربية، وأظهرت نتائج دراسة أجراها الباحث السعودي عبدالله بن سالم الشمري، أن تدريس اللغة الإنجليزية يزاحم مواد أساسية كاللغة العربية والعلوم الدينية والقرآن الكريم..، وأن تعليم لغة أجنبية في مرحلة مبكرة من العمر، يكرّس ثقافة تلك اللغة، واستدل على ذلك بما حدث في المغرب العربي من محاولة «فرنسة» الشعوب العربية، وهي محاولات تنطوي تحت مظلة الاستعمار الثقافي، وحكم الدول «المتفوقة» على الفقيرة، الدول الكبرى لا تقر تدريس لغات أجنبية في المراحل الأولية من التعليم..
هناك أيضا .. من يرى أن بناء الحضارة والعمق الثقافي والتطور الطبيعي للمجتمعات، لن يحصل إلا من خلال إثراء اللغة العربية بالمصطلحات المعرفية، وضرورة بدء ترجمة المعرفة بشتى نواحيها، مما يُوجد رصيداً لغوياً، يثري قدرة الإنسان العربي على التفكير والبحث في ميادين العلم من خلال لغته، ويزيد من ثقته في نفسه، وتواصله مع أدوات الوعي بلغته القومية، إن الدول التي اعتمدت سياسة الترجمة لكل المعارف هي التي تخطت حواجز أرقام العالم الثالث في معدلات التنمية إلى مستويات العالم الأول، والأمثلة عديدة منها اليابان وكوريا والصين، في حين أن دولاً أخرى مثل الفلبين والباكستان لم يدخلا اللغة القومية كمصدر ووعاء ثقافي يستوعب المعارف وتطورها، ويحافظ على الهوية، وقررا أن تصبح اللغة الإنجليزية الناقل المعرفي الرئيسي في ميادين العلوم الطبيعية والتقنية، ومع ذلك لم يتجاوزا أزماتهما التنموية.الخوف الحقيقي هو من «فلبنة» المجتمع، وإدخاله حالة «الغراب الذي أراد أن يدرج كالحجلة» ...
وتدل حكاية الغراب وطائر الحجلة، وهي إحدى حكايات كليلة ودمنة لابن المقفع على استعارة محورية وتناظر واضح بين تعلم اللغة وتعلم المشي، وكذلك على نظرية في تعلم اللغة مفادها أن المرء حين يتعلم لغة أجنبية يمر بمرحلة بين بين، يتحدث لغة ليست هي لغته الأم ولا هي اللغة الأجنبية، لغة تتداخل فيها المفردات والأصوات والتراكيب اصطلح المتخصصون في اكتساب اللغة وتعلم اللغات الأجنبية على تسميتها تداخل لغوي ..Interlanguage «مجلة أفق السنة الثانية العدد 24، آب/أغسطس 2002» ....
هذا ما حدث بالضبط في مجتمعات آسيوية، أصبحت بسبب تلك الحالة، بالإضافة إلى غياب البرامج التنموية الوطنية مصدراً رئيسياً لتصدير عمالة رخيصة وفئة «درجة ثانية» للغرب..
تخوض اللغات العالمية في القرن الجديد تحدياً كبيراً ضد اللغة الإنجليزية في تكنولوجيا المعلومات، بل صار هناك لغات مهددة بالانقراض، إذا لم تبدأ برامج وطنية ترفع من آلية لغتها وقدرتها التقنية، ولعل فرنسا واليابان وألمانيا وكوريا خير أمثلة على ذلك،... آلاف اللغات ...، ينقرض منها لغة واحدة كل أسبوعين، وهو ما حذرت منه هيئة اليونسكو، فانقراض لغة يعني خسارة إرث ثقافي إنساني لن يعوض..فشل المشاريع الوطنية في ترجمة العلوم والمعارف أدى إلى حالة اللاتوازن الحالية، المتمثلة في التذبذب بين الالتحاق بآخر الركب في قافلة الغرب، أو ضرورة العمل على إعادة زرع احترام الذات في أجيالنا القادمة من خلال تقوية اعتمادها على اللغة العربية في ميادين البحث العلمي وأسواق العمل.
في رأيي المتواضع، الوضع الحالي في سوق العمل واشتراطه إجادة اللغة الإنجليزية كشرط من شروط التوظيف، لا يصب في مصلحة تنمية الشعور بالخصوصية، والانتماء لثقافة متميزة، وسيصبح إعاقة مستديمة في وجه تطور وتوظيف العمالة السعودية، والحل الأمثل هو وضع خطط مستقبلية لترجمة المعارف الدورية، وآخر مستجدات العلم الحديث..
وتشجيع البحث العلمي باللغة العربية ونشرها في الدوريات العلمية المحلية.
ما قامت به أخيرا أرامكو من إضافة اللغة العربية لأحد أنظمتها المتطورة «ساب» التي تدير جميع العمليات الحيوية في صناعة الزيت والغاز، دليل على أهمية إدخال اللغة العربية إلى ميادين العمل، فأرامكو استدعتها الحاجة لإجراء معالجة تقنية مطولة، وتصميم رموز كمبيوترية خاصة لأجل استخدام «العربية» كلغة تواصل مع عملائها المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
اللغة تلعب دورا مهما في تشكيل حياة البشر، ليس فقط بوصفها سبباً للتميز الاجتماعي، بل بوصفها كذلك آلة حرب معرفية وسيادة وقانوناً، ووسيلة من وسائل الحفاظ على القوة والهيمنة في الخطاب، وكذلك حفظ وتمرير وإعادة إنتاج القيم.
|