* لونارد - القاهرة:
مولد القرنة:
ربما كانت قصة مولد قرية القرنة من اغرب واطرف القصص التي يمكن ان تروى بخصوص مشروع ما، ويذكرها حسن فتحي في مذكراته في كتابه العمارة للفقراء، فقرية القرنة القديمة تقع في مكان يسمى بذلك الاسم جنوب دلتا النيل قرب الاقصر، وهو موقع اثري يتألف من ثلاثة اجزاء: وادي الملوك شمالا، ووادي الملكات جنوبا، ومقابر النبلاء في الوسط، وتقع قرية القرنة في الموقع الذي كانت به مقابر النبلاء التي تحفل بالعديد من القبور الاثرية للفراعنة القدماء والتي تحتوي على الكثير من الآثار والمعادن النفيسة التي كانوا يدفنونها مع موتاهم استعدادا للحياة الاخرى بحسب معتقداتهم.
وقد كان هناك ما يقارب من سبعة آلاف فلاح مصري يعيشون في موقع قرية القرنة وقد اجتذبهم الموقع الاثري الغني بالآثار التي كانوا يعيشون على نقبها وبيع ما يجدون من نفائس بها بالرغم من كونهم مزارعين وبامكانهم العيش على الارض الزراعية المحيطة. وقد استمروا طوال سنوات يسرقون المقابر ويبيعون القطع الاثرية بابخس الاثمان دون علم مصلحة الآثار بذلك، اذ كانت لهم خبرة ودراية بالطرق المؤدية للمقابر والتي كانت توجد بمجموعات مخفية بمهارة وكل منها تمثل سلالة من السلالات المصرية القديمة التي ازدهرت ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. وبقي الامر مستترا كما هو رغم ما في فداحة الخسائر لعلم المصريات الاثري حيث كان هؤلاء الفلاحون يبيعون ما يجدون بأبخس الاثمان لجهلهم بما تساويه هذه القطع الاثرية، واحيانا اخرى كان الامر اسوأ اذ يعمدون الى صهر القطع الذهبية وبالتالي تحويلها الى ذهب خام يباع بالسعر الجاري للذهب بالسوق، وهكذا.
وذات مرة حصلت فضيحة اذ باع احدهم نقشاً صخرياً بالكامل من احد القبور وهو اثر قديم مشهور ومصنف، وكانت هذه السرقة بحسب كلمات حسن فتحي كمن سرق نافذة من مبنى اثري او عمودا من مبنى البارثنون باثينا. وهنا كان على مصلحة الآثار ان تقوم بترحيل هؤلاء القرنيين وكان التساؤل الى اين، وكيف؟
حسن فتحي وعمارة الطين وقرية القرنة الجديدة:
واذا كان حسن فتحي المعماري المصري قد اقترح في تلك الآونة افكاره المتعلقة باستغلال المواد الطبيعية في تكوين أسس عمارة محلية لذوي الدخل المحدود والفقراء الذين يشكلون غالبية المجتمعات النامية، فقد بدا ان هذه الافكار تتلاءم مع النية لإعادة توطين سبعة آلاف فلاح بموقع جديد، وهم ممن كانوا يعيشون على (سرقة المقابر)، وبالتالي ينبغي على المصمم والمخطط إعادة توطينهم وتشغيلهم في ذات الوقت. ولكن الامر بدا اكثر تعقيدا من ذلك اذ يتحتم الاخذ بالاعتبار ان هؤلاء الفلاحين كمجتمع يشكلون منظومة اجتماعية معقدة من صلات القرابة بالدم والزواج، وبعاداتهم وميولهم وبصداقاتهم وعداواتهم، اضافة الى ان هذا المجتمع القروي كان لا بد من إعادة احلاله بالموقع الجديد والاخذ بالاعتبار خلق فرص عمل قريبة لهم ليمكن لهم تقبل فكرة السكن بذلك الموقع. ولم تكن فكرة تعويضهم عن منازلهم مطروحة، اذ لا يشكل مبلغ التعويض ما يكفي لبناء بيوت جديدة لهم، وحتى لو قامت الحكومة بتعويضهم بسخاء فإنه وللطرافة كان التخوف ان يستخدمونها لاتخاذ مزيد من الزوجات لابناء البيوت. ومن هنا كان على الجهات المسؤولة توفير الاسكان البديل لهم.
المخطط العام للقرية الجديدة:
اعتمد حسن فتحي في تخطيطه لمشروع القرنة الجديدة مجموعة من الأساسيات التي شكلت بالاضافة الى عمارته جزءا مهما في احياء تراث وحرف يدوية تقليدية يمكن للفلاحين ان يعملوا بها ويعيشون عليها. وهذه العناصر الأساسية شكلت أساس عمارة الفقراء التي كان ينادي بها. فقد كان من اولويات العمل ان يعيد احياء الحرف التقليدية كصناعة الطوب الطيني كوحدات بنائية أساسية، وكذلك صناعات الزجاج الملون والنجارة من اجل توفير العناصر الأساسية للبيوت بأقل التكاليف نظرا للميزانية المحدودة من جهة، ولرفع اسهم هذه الحرف التي كانت تؤول للاندثار من جهة اخرى.
وبالاضافة لذلك فقد عمل حسن فتحي بنظام (العونة) او التكافل الاجتماعي في بناء البيوت كمجتمع لا كأفراد يبنون بيوتهم لوحدهم. وإذ اقترح حسن فتحي مجموعة من الوحدات البسيطة للبيوت والتي تتشكل من مجموعات من البيوت ذات الفراغات البسيطة وضمن مخطط هيكلي كلي تتوافر به مجموعة من المباني العامة، فقد كان عليه ان يخيّر الفلاحين بين النماذج لاختيار ما يناسبهم، وبعد اجراء مجموعة من التجارب على كيفية بناء الوحدات الأساسية بالبيت كالجدار والسقف المقبب وغيره، يقوم الفلاحون ببناء بيوتهم بأنفسهم. وبذلك كان حسن فتحي يقول قد لا يستطيع عشرة رجال ان بينوا عشرة بيوت منفردين، لكن يستطيع عشرة رجال ان يبنوا عشرة بيوت مجتمعين.
وقد احتوى التصميم الهيكلي للمشروع على مبان عامة تتضمن المسجد ومدرسة وسوقا، بالاضافة الى الوحدات السكنية التي نظمها بما يحاكي الاحياء التقليدية العفوية وبما يناسب طبيعة التكوينات القروية. وبالرغم من المحاولات الجاهدة لارساء افكاره المعمارية والاجتماعية بتكوين مجتمع قروي بالموقع الجديد إلا انه قد لاقى عناء وجهدا كبيرين مع القرويين الذين حاول بعضهم اغراق القرية بفتح السد القريب وتخريب الموقع، اضافة الى بعض الوقائع التي يرويها في مذكراته. وبالرغم من المدى الذي يمكن ان يكون قد نجح فيه حسن فتحي في تحقيق افكاره في هذه القرية، الا ان قرية القرنة قد جسدت مجموعة من الافكار المعمارية والتخطيطية التي نادى بها حسن فتحي وكان سابقة في تلك الفترة من النصف الاول من القرن العشرين. وتمثل مذكراته في هذا المشروع بالرغم ما بها من مرارة التجربة دروسا يستفيد منها العديد في العمارة الفطرية او التراثية او المحلية التي تراعي البيئة المحيطة والانسان والزمان.
|