«ألن يكون الأمر رائعاً إذا ما كرر التاريخ العراقي تاريخ أفغانستان، إذا ما تم قلب نظام مرفوض، وتحرير الشعب، إذا ما وصل الغذاء بحرية، وأصبحت الحدود حرة وانتهى القمع، وفتحت السجون؟». هذا هو الحلم الذي عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أمام أحزاب المعارضة العراقية المجتمعة في واشنطن، حكاية خيالية يبدو أن صقور الإدارة الأمريكية قد نجحوا في جعل الرئيس بوش يصدقها، وهم يأملون في تنفيذها بأسرع وقت ممكن.! «ليست القضية معروفة ما إذا كنا سنضرب العراق، بل متى؟» هذا ما يردده معسكر دعاة الحرب وعلى رأسهم دونالد رامسفيلد، ذاك أن جميع الفرقاء غير مقتنعين، وتدور الأمور وكأن الصقور الذين يكتبون النص في واشنطن قد قرروا تحضيراً سيكولوجياً وعسكرياً لقبول الحرب، سواء لدى حمائم الإدارة من قبل وزير الخارجية كولن باول الذي لم يعد صوته مسموعاً كما في السابق، أو لدى الحلفاء الأوروبيين وحتى العرب.
إن العالم بأسره منشغل ومنذ أكثر من عام، بموعد الضربةالقادمة للعراق، ومسوغات تأجيلها بحجج وتبريرات أمريكية متناقضة، وتأييد الصقور الأمريكية للفكرة أو معارضتها، ومن معها ومن ضدها في العالم الذي كتفته أمريكا وشلت قدرته بسطوتها، حتى صار الحديث في الموضوع رجماً بالغيب، مفاتيح المعرفة فيه غير حقيقية، نلهث وراءها حكاماً وشعوباً وكتاباً، مما يتساقط من معلومات أمريكية، أو مؤشرات قياسية لردات الفعل العربية والدولية تطلقها أمريكا كل يوم، مما بلبل أفكارنا، وامتص الغضبة العارمة في الشارع العربي، والمواقف الرسمية على حد سواء، وجعل تحليلاتنا للموضوع تثير غثيان الكاتب قبل القارئ.
الثابت الوحيد الذي نقرأه يومياً في تناقض المعلومات ودلالتها، هو أن الوضع في فلسطين قد ارتبط بالعراق، ومنذ عام 1990م.
تهدئة الجانب الفلسطيني المتمثل في وقف العنف الفلسطيني وهي الكلمة الأمريكية التي تطلق على الانتفاضة يقابلها تصعيد في العراق، والعكس صحيح. وآخرها هذا الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي الذي ولد مشوهاً وأطلق عليه «غزة - بيت لحم أولاً» بعد أن فشل شارون في دفع بوش لمزيد من التهور وضرب العراق قبل عودة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات. وضرب العراق قادم لا محالة رغم التأييد والرفض لفعلة بوش القادمة من الصقور وغيرهم، وأن المشكلة حتى هذه اللحظة هي في التوقيت، وربما في العثور على مواطئ أقدام للجيش الأمريكي ينطلق منها باتجاه بغداد، وما طلع به علينا شوارزكوف أو هنري كيسنجر، وتأييد النسبة العالية من الشعب الأمريكي، فبوش يندفع بثاراته الشخصية ورغبته في تغطية فضيحة ستتفجر عن جرائم الحرب التي ارتكبت في حق مقاتلي طالبان والأفغان العرب حين حشروا في براميل حتى حاولوا أكل بعضهم أو لعق سوائلهم حين جنوا، حيث قضى أكثر من ثلاثة آلاف منهم نحبه في هذه الحاويات..!! من يحاسب أمريكا على جرائمها وعدم انسانيتها؟! من يحاسبها على قتلها أكثر من أربعمائة أفغاني من النساء والشيوخ والأطفال قتلتهم بطريق الخطأ؟! بل ماذا في جعبة الدول العربية أو الأوربية غير الصمت المريب العاجز أمام ما سيحمله ضرب العراق من كوارث للأمة، سواء شاركت في الضربة أم وقفت متفرجة صامتة، تنتظر الدور القادم عليها، وقد بدأت المؤشرات تلك في الوضوح والتجسد، وحجز بعض الأموال العربية والتدقيق المستمر عليها، التعويضات لضحايا 11 أيلول، سياسة إما معنا أو ضدنا، مهاجمة السعودية «على الطالع والنازل»، وقطع المعونات إلا بشروط، أقلها هو تركيع القضاء المصري والتدخل في أدق الشؤون الداخلية.
أما شوارزكوف قائد قوات التحالف عام1990م والذي يحذر من ضرب العراق، فهو الذي أبدى امتعاضه حينذاك واختلف مع بوش الأب حين أرغمه على التوقف عند حدود بغداد، وعدم المساس بالقيادة العراقية خوف الفوضى وتقسيم العراق إلى كانتونات طائفية، ستكون بعض تحالفها في غير صالح السياسة الأمريكية واحتلالها للمنطقة بالقواعد والترسانات والسيطرة على النفط.
ولشوازركوف قول صحفي معروف عام 1990م هو «عدم فهمه لأمر التوقف من بوش الأب عن اجتياح بغداد، ما دمنا نعرف كل شيء عن الرئيس صدام حسين حتى ألوان ملابسه الداخلية».
فلماذا تطلع علينا الأخبار الأمريكية الآن عن تشكيل طابور خامس لجمع أكبر قدر من المعلومات الاستخباراتيه حول نظام الحكم العراقي ومخططاته. وعلينا أن نصدق أنهم في مرحلة ما قبل جمع المعلومات، وأن نكتب بأن احتمالات الحرب على العراق ما زالت قيد الدرس. ألم يقل الرئيس الأمريكي جورج بوش في تصريح له مؤخراً، بأن قراره الأخير بشأن العراق، يعتمد على آخر معلومات استخبارية، إن هذا التصريح ليس إلا محاولة من ادارته لامتصاص وتهدئة المعارضة المتزايدة من الديموقراطيين في الكونغرس، وكذلك تبليغ الأوروبيين والرأي العام العالمي والمجتمع الدولي المعارضين للعدوان على العراق، بأن هناك امكانية لحل ما للقضية العراقية غير الحرب. غير أن الرئيس الأمريكي أوضح في نفس التصريح أن واجب الولايات المتحدة هو حماية نفسها وحماية حلفائها وحماية الحرية والسلام في العالم، مما يعني أن واشنطن ماضية في الاستعداد على قدم وساق في أوساط البنتاغون والجيش الأمريكي للعدوان على العراق، ذلك أن الرئيس الأمريكي لم يتخل عن ادعاءاته بأن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، أو أنه في طريقه لامتلاك هذه الأسلحة، الأمر الذي يعتبره الرئيس الأمريكي تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها الصهاينة وتهديداً للحرية والسلام في العالم، وكأن العراق فعلاً يمتلك أسلحة تهدد الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والحرية والسلم العالميين، مع أن العراق أبدى استعداده لفتح أبوابه لفرق التفتيش الدولية مرة أخرى، كما أبدى استعداده لتنفيذ كافة قرارات الأمم المتحدة الصادرة بحقه. وعلينا أيضاً أن نغمض أعيننا وعقولنا ولا نفهم أن ما يؤخر ضرب العراق هو ما يدور في فلسطين، وأن محاولات التهدئة على الجانب الفلسطيني مؤشر على قرب التصعيد على الجانب العراقي، وهو ما أشارت إليه الصحف البريطانية والمحللون السياسيون في أمريكا، من أن المنطقة لا تحتمل تفجر الوضع في فلسطين وضرب العراق، وأن مصالح أمريكا لن تنجو من غضب الشارع العربي. ولهذا فشل شارون في دفع بوش لمهاجمة العراق قبل تهدئة الوضع الفلسطيني، ففوت بوش دون قصد على شارون المتعطش دوماً للدماء فرصة محو العراق عن الوجود وذلك باستخدام الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية كما هدد قبل أيام..!! فليرفع العرب والمسلمون أياديهم بالدعاء للسيد بوش حاكم البلاد والعباد، لأنه سيكتفي بضرب العراق مع ابقائه على الخريطة، أحسن من محوه، حتى ولو منهوباً ومسلوباً ومقسوماً ومضروباً..! إنه العدل والرحمة التي بشرنا بها النظام الدولي الجديد..! عدل ورحمة أمريكية بشعب حاصره وقتل أطفاله جوعاً ومرضاً وقصفاً بالطائرات، وشرد أهله في المنافي والشتات.! وبئس هذا الصمت والخذلان العربي الذي نعيشه منذ سنوات عديدة رغم مؤشرات ما هو قادم، وهو قاتم وأسود، للحكومات والشعوب العربية على حد سواء.
(*) نائب المدير الإقليمي للاتحاد العالمي للإعلام واستطلاعات الرأي
|