في أعقاب دعوى التعويضات الفلكية التي رفعها مؤخراً بعض أهالي ضحايا أحداث 11 سبتمبر 2001م في الولايات المتحدة الأمريكية والتي يطالبون فيها مؤسسات وأفراداً سعوديين بتعويضات مالية تصل إلى 11 تريليون «دولار أمريكي» وفي إطار الطروحات الأمريكية الإعلامية الموجهة وتقرير مؤسسة راند الاستشارية وباقتراح تجميد بعض الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة الامريكية أو كلها أو رَّبما استخدامها لمقابلة التعويضات المطلوبة..
تناقلت وكالات الأنباء العالمية نقلاً عن مصادر صحفية أمريكية بأن السعوديين عملوا على سحب جزء كبير من استثماراتهم في الولايات المتحدة الأمريكية إلى خارجها. وقدرت هذه المصادر الصحفية ان إجمالي السحوبات قد وصل إلى نحو 200 مليار دولار أمريكي من أصل الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية المقدرة صحفياً بنحو 750 مليار دولار أمريكي.
وبغض النظر عن صِحَّة أو دقَّة بعض أو كل هذه المعلومات ومصداقية مصادرها، الاَّ أنها ومن باب أن «رُبَّ ضارة نافعة» تفصح عن بداية عملية إيجابية لإعادة هيكلة وتوزيع بعض الاستثمارات السعودية في الخارج وتوجيهها إلى مناطق أكثر أمناً واستقراراً، خاصة بعد أن كشفت الولايات المتحدة الأمريكية عن المستور وأماطت اللثام عن وجهها الحقيقي الذي لا يخلو من الشر رغم كل محاولاتها الرسمية والإعلامية إلصاق تهمة الشر إلى محاور يقع معظمها في العالم العربي والاسلامي بدون أي مبرر أو منطق سويّ.
إن البدائل الآمنة للاستثمارات السعودية الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً قد لا تكون بالضرورة دول الاتحاد الأوروبي التي قد تجعلها السيطرة الأمريكية غير آمنة نسبياً مقارنة ببدائل جديدة ممكنة في اليابان أو الصين أو دول شرق آسيا، أو ربما أستراليا، ناهيك عن الدول الإسلامية والعربية التي غفلنا عنها كثيراً لسنوات طويلة.
وتُطرح هذه البدائل من منطلق أن الاقتصاد السعودي لا يمكنه أن يستوعب هذا الرقم الكبير الذي تناقلته وكالات الأنباء وهو 200 مليار دولار أمريكي، باعتبار أن ميزانية العام الجاري في المملكة العربية السعودية لا تتجاوز 54 مليار دولار أمريكي، واستناداً إلى هذا المعيار، يمكن القول بأنه من المتوقع أن يتأثر الاقتصاد السعودي بجزء من هذه الأموال السعودية التي تقول وكالات الأنباء إنه يتم الآن إعادة هيكلتها وتوزيعها. وإذا كُنَّا عملياً لا نتوقع عودة كل الاستثمارات السعودية الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاقتصاد السعودي، فإننا في الوقت نفسه يحقُّ لنا أن ندعو أصحاب رؤوس الأموال هذه الى التفكير الجدي في الاستثمار في الاقتصاد السعودي، فنحن بحاجة الى هذه الاستثمارات ومن غير المنطقي القول بأن القدرة الاستيعابية للاقتصاد السعودي غير كافية لاستيعاب جزء مهم من هذه الاستثمارات، وإلاَّ لِمَ تسعى الجهات المختصة جاهدة بجذب الاستثمارات الاجنبية الى الاقتصاد السعودي وتشجيعها على ذلك إثر تغيير نظام استثمار رأس المال الاجنبي مؤخراً.
في هذه المرحلة الراهنة نحن بحاجة فعلية ماسَّة إلى مواجهة هذا التحدي والأخذ بالخيار الاستراتيجي لتوسيع قاعدة الانتاج في الاقتصاد السعودي وتهيئة الفرص الجيدة لهذه الأموال لدفع عجلة التنمية في الاقتصاد السعودي وفتح مجالات أوسع للاستثمارات السعودية، وما يمكن أن يعكسه ذلك على مستوى الأداء والتوظيف وتوفير فرص العمل والاستفادة من قدرات الاقتصاد الطبيعية والبشرية على حد سواء.
صحيح أن الاستثمار الأجنبي مطلوب لارتباطه بجلب التقنية الحديثة المتطورة، مثل مبادرة الغاز التي قد تتطلب استثمارات تصل الى 25 مليار دولار أمريكي، ولكن أليس من الممكن أن يتحمل الاقتصاد السعودي في الأجل القصير تحديداً بعض التكاليف الاضافية، أو ربما بعض الصعوبات والاختناقات والتضحيات، في مقابل رؤية استراتيجية طويلة الأجل لتنمية الاقتصاد واعادة هيكلة قطاعاته الانتاجية وتوسيع قاعدة سوق العمل لأرتال الشباب السعودي القادم خلال السنوات القادمة؟!
إن هذه الأحداث التي فُرضت قسراً على المستثمرين السعوديين يجب أن تكون فرصة لتدارس الشأن الاقتصادي الوطني والعمل على استغلالها لمصلحة الوطن والخروج منها بفائدة تعطي ثمارها في الأجل الطويل وهو المحل العملي لأي استراتيجية اقتصادية سليمة.
إن إعادة هيكلة وتوزيع الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية حقٌّ مشروع في ظل التخوف مما يمكن أن تفكِّر فيه أو تقدم عليه الولايات المتحدة الامريكية في ظل غياب الحكمة في قراراتها التي لا يمكن الركون اليها، ولكن للوطن أيضاً حقٌّ يجدر بالمستثمرين السعوديين أن يراعوه إكراماً لهذا الوطن الذي أعطى الكثير، وجاء وقت الاستحقاق.
(*) رئيس (دار الدراسات الاقتصادية الرياض)
|