Thursday 19th September,200210948العددالخميس 12 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

الوحوش والحمام: الصور النمطية وانفجار الوعي الغربي الوحوش والحمام: الصور النمطية وانفجار الوعي الغربي
د. صالح زيَّاد

الصور النمطية التي تتشكل عن أمة أو مجتمع هي ناتج طبيعي لجملة عوامل تميل الى الاختزال والاجمال أكثر من ان تميل الى التفصيل، وتتكىء على الخيال أكثر من الوقائع. وتستبطنها، غالبا، تلك الانانية الحضارية والثقافية التي تغلِّب جانب السلب في الآخر، فتثلبه لتبرر شعوريا لخصوصيتها الحضارية، وتنتقصه لتشرع لوجودها وقيمتها.
وهو أمر يصل، أحيانا، الى حدود النفي للخصائص الانسانية ذاتها، فلا يغدو هذا المجتمع أو ذاك إلا قطيعا من الوحوش او مجموعا من البهائم، وعلى نحو يعفي الضمير والعقل من الالتزام بأي حق تجاهه.
في كل صورة نمطية، تملكها أمة أو مجتمع عن آخر، لا وجود للتنوع والاختلاف، لأن التخبط توحيدوتجميع واختزال واجمال. لا وجود للتشارك لأن تخبط الآخر يصدر، بوعي وبلا وعي، عن حراسة الذات وتسويرها وتحصينها. هكذا تغدو الصور النمطية عن المجتمعات ولها ممارسة غير عقلانية، وهي، لذلك، حقل اختباري غير زائف، لما يدخره تاريخ العلاقات الحضارية الانسانية من تصادم وتقاذف لا مبتدأ له ولا منتهى.
هنا لا يمكن ان نفحص الصور النمطية في منطقة الضوء الاجتماعي والحضاري، لأنها، دائما، نتاج تلك المنطقة السرية المغلقة والغامضة في الوعي الاجتماعي والحضاري. وحده العقل ولازمه العلمي من يتصور الواجهة ويسكن منطقة مفتوحة بين المجتمعات، ولهذا لا يماري مجتمع ولا تجادل أمة في مسألة الافادة العلمية واستهلاك نتائج حقائقها الفكرية والتقنية. انها منطقة تشارك وتفاعل وحوار، لا تقاطع وتنابذ وصدام. وبوسعنا ان نتأمل ما في هذه المنطقة من اشجار الحقائق الانسانية الكبرى وما تبلور من المواثيق والقوانين والعلاقات الانسانية الدولية التي تقيس الفعل الى المصالح، وترهن الآخر كما ترهن الذات الى وقائع التشارك التي لا تتيح لأحد ان يعيش في الكون منفردا.
لكن المجتمعات الانسانية لا تعيش بالعقل، فقط. انها تعيش بالمعقول وبغير المعقول، وليست الخيالات والخرافات والأساطير حكراً على بعض المجتمعات أو خصوصية لبعض الامم، انها تختلف بين الامم في الدرجة اكثر من اختلافها بينها في الكيفية، وأرقى المجتمعات الحديثة وأكثرها علماً وأمهرها ثقافة وافضلها احتراما للعقل لا تخلو من تلك المنطقة السرية الغامضة التي تمتح منها لوجودها اسبابه بكيفية ما.
في المجتمعات الغربية لم تنشأ الصور النمطية عن العرب والمسلمين بين عشية وضحاها، ولا يمكن ان نحدد لحظة او مكانا او سببا بعينه لتشكل هذه الصور ونموها لكن الذي حدث في «الحادي عشر من سبتمبر» كان انفجارا في الوعي الغربي عموما استرعى تلك الصور النمطية وكيفها عاطفيا وايديلوجيا وأخذ يعقلنها في محاولة للفهم من نافذة الانانية الحضارية والعقلانية التي تبحث عن تماسكها، دائما، بالاختلاف والتخندق في وجه العدو.
كل العرب والمسلمين وحوش وأعداء للحضارة والديمقراطية والنظام والحرية والعلم والمرأة... من «كل» هذه يصور النمط، واليها يتجه، فالافراد مجموع، والمجموع جنس، والجنس كل تحمل اجزاؤه دوال كليته، ويلخص أفراده مجموعه. هكذا يغدو كل فرد عربي او مسلم حاملا بالضرورة للدلالة النمطية التي تصادر المنطق، وتقبل العقل، وتحجب الواقع، لأن المنطق لا يقبل الحكم على الكل بخصائص الاجزاء منفردة، والعقل لا يسلِّم بالاجمال قبل التفصيل، والواقع ينفي ان يكون الحدث «11 سبتمبر» بفعل العرب والمسلمين بألف لام الجنس.
في صدر مقدمة كتابه:
real Bad Arabs (Center for Muslim-Christian understanding, 1997)
يورد جاك شاهين مقتطفا ل«سدني هاريس» يقول:
«الكاريكاتير الشائع للعربي العادي اسطوري كالصورة القديمة لليهودي. انه يرتدي ثوبا وعمامة، وهو شرير وخطر، يتورط في اختطاف الطائرات، ونسف المباني العامة. كأن الاصل الانساني لا يستطيع ان يميز بين اقلية صغيرة من الاشخاص الذين يمكن الاعتراض اليهم والسلالة التي ينحدرون منها اذا كان لدى الايطاليين «المافيا» يصبح كل الايطاليين مشتبها بهم، واذا كان لدى اليهود خبراء ماليين يغدو كل اليهود جزءا من المؤامرة العالمية، وإذا كان في العرب متعصبون يغدو كل العرب متشردين يجب، في عالم اليوم اكثر من اي وقت، ان نفض مثل هذه الحواجز لنكون جميعا أكثر تشابها من كوننا مختلفين «ص1».
هذه هي لغة العقل والمنطق الانساني، وهي ما يعلمنا إياه القرآن الكريم {وّلا تّزٌرٍ وّازٌرّةِ وٌزًرّ أٍخًرّى" }
{كٍلٍَ نّفًسُ بٌمّا كّسّبّتً رّهٌينّةِ }، حيث تغدو المسؤولية فردية، فلا تجرَّم امة بجريمة شخص أو أشخاص.
ولا يمكن ان تقسم بني البشر اجمالا الى وحوش وحمام، لأن سيكولوجية العنف والارهاب لا تولد مع الناس، انها نتاج الواقع الذي تصنعه المجتمعات الانسانية في تداخلها وتصارعها وما ينشأ عن ذلك من علاقات قوة ونزعات سيطرة وتسلط، هكذا تغدو الصور النمطية جزءا من آلية لا وعي المجتمعات في تصالحها وتنافرها.
في العالم الغربي، اليوم، رواج للكتب التي تعرِّف بالاسلام والعرب، وهناك سَيْلٌ من التحليلات والدراسات . لكن الفاجع ان مناخ التعاطي الفكري يكاد يخلو من الانصاف والعدل والموضوعية، لأنه يقصد البحث في الاسلام عن مبرر لتلك الصور النمطية التي لا ترى في المسلمين والا الوحشية الدموية وتقرنهم دوما بالكسل والبطالة والتخلف والغباء وكل منكر في الخلق والسلوك. من هنا يشهد الاسلام، على المستوى الثقافي، حربا شعواء، ويكاد الفضاء امامها ان يكون مطلقا من كل رد أو اعتراض او تبصرة.
نتذكر، جميعا، كلمة الشيخ الجليل محمد عبده، حين زار أوروبا، فأدهشته حفاوة أهلها بالعلم والعمل والنظام والنظافة والوقت.. فقال: «رأيت في أوروبا الاسلام ولم أجد المسلمين». أليست هذه شهادة على إدانة الاسلام لكل الصور السلبية في السلوك البشري.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved