Thursday 19th September,200210948العددالخميس 12 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

اليهود الافتراضيون (2) اليهود الافتراضيون (2)
د. سعد البازعي

انتهت المقالة الماضية إلى المصدر الذي استقيت منه عنوان ما أكتبه هنا حول «الافتراضية» «وهي غير الفرضية طبعا» فقد لفت نظري عنوان كتاب صدر هذا العام 2002م حول ثقافة اليهود أو الثقافة اليهودية «وهذا مفهوم فيه نظر» يشير إلى تلك الافتراضية، التي تتضمن الاقتراب من الشيء دون الالتحام به كلية، او الايحاء بشيء او بفكرة دون التطابق معها، أي ان «الاقتراب» او «التقريب» نوع من الافتراضية. وهكذا يمكن ترجمة عنوان الكتاب، وهو بالانجليزية:
Virtually Jewish: Reinventing Jewish Culture in Europe، ليصير: «يهودي افتراضا»: اعادة اختراع الثقافة اليهودية في اوروبا، او ليصير: «يهودي تقريبا».. والمهم بالطبع هو الفكرة الاساسية التي وجدتها متمثلة فيما فعله الروائي الالماني سيبالد في قصته «اوسترلتز».
تقول مؤلفة كتاب «يهودي افتراضاً» روث غروبر ان عدد اليهود في اوروبا قد تناقص منذ الحرب العالمية الثانية ليتزايد على الطرف الآخر من المحيط الاطلسي، اي في الولايات المتحدة، وان ذلك التناقص لم يؤد كما كان متوقعا الى تضاؤل الحضور الثقافي اليهودي في اوروبا، وانما صاحبه تزايد في ذلك الحضور على نحو يجعل الحضور السكاني والحضور الثقافي يسيران بشكل عكسي. وتضرب لذلك امثلة كثيرة تبدأ برواية نشرت عام 1922م لكاتب نمساوي تبدو الآن وكأنها تستبق الوضع القائم حاليا. والرواية واضحة المغزى من عنوانها: «مدينة بلا يهود»: رواية لعصرنا «ترجمت الى الانجليزية في نيويورك عام 1926م، ثم اعيد طبع الترجمة في نيويورك أيضا عام 1991م على نحو يشير الى اهتمام متزايد بالموضوع في تلك المدينة «اليهودية» الى حد كبير كما تؤكد المؤلفة بالأرقام.
لم يكن كاتب رواية «مدينة بلا يهود» مشغولا بنيويورك بالطبع فلم تكن عند صدور الرواية مدينة كبيرة الأهمية، ليس على الأقل بأهمية فيينا، ولاسيما بالنسبة لليهود، حيث انها كانت مركز تجمع رئيسي لهم في اوروبا. فهناك عاش بعض أشهر اعلام اليهود مثل فرويد وكارل بوبر. تخيل المؤلف ان اليهود طردوا من فيينا وان فقرا اجتماعيا وثقافيا فادحا نتج عن غيابهم، مما ادى في النهاية الى اعادتهم إليها لتلافي الكارثة التي حلت نتيجة ذلك الغياب. غير ان الواقع التاريخي الذي صدق الرواية في جانب منه، خالفها في جانب آخر. فقد جاءت الحرب العالمية الثانية لتكون نازلة عظمى لليهود فتؤدي الى تناقصهم الشديد لا في فيينا وحدها وانما في اوروبا أجمع. فالاحصائيات تقول ان النازية والفاشية أدتا الى انقاص ذلك العدد من تسعة إلى ثلاثة ملايين. والأرقام التي تؤكد ذلك والتي استقتها المؤلفة من عدة مصادر ليست دقيقة تماماً، لكنها تمثل مؤشراً عاماً. فهي تقول ان عدد اليهود في تشيكو سلوفاكيا مثلاً نقص الى ما بين 3500 و6000 من بين سكان تلك الدولة البالغ 12 مليوناً، وان عددهم لا يتجاوز 35 ألفاً من سكان ايطاليا البالغ 60 ألفاً من مجموع 80 مليوناً في ألمانيا. اما ان أدخلت الولايات المتحدة فالأرقام مذهلة: تقول المؤلفة ان في لوس انجلوس وحدها من اليهود ما يفوق من في بريطانيا كلها، وان حياً واحداً من أحياء نيويورك «بلوك واحد» يعادل كل ما في العواصم الأوروبية من اليهود. ففي بريطانيا يوجد حوالي 300 ألف يهودي، ويوجد 600 ألف في فرنسا.
غير ان نقص العدد بين اليهود لم يؤد الى اضمحلالهم الثقافي المتوقع منطقياً، وهنا مربط الفرس، كما يقال. فقد لاحظت المؤلفة انه منذ الثمانينيات وبتزايد ملحوظ في التسعينيات انتشرت حركة ضخمة في اوروبا لاحياء الثقافة اليهودية أو بدقة أكثر لتمثلها بأداء رقصاتها وموسيقاها وتقديم أطعمتها واقامة المتاحف للحفاظ عليها ومراكز البحث لدراستها، الخ. ففي اماكن عديدة زارتها المؤلفة في بولندا وألمانيا لاحظت ذلك الاهتمام المتزايد بكل ما هو يهودي ولفت نظرها سعي الناس الى التلبس بما يرونه هوية يهودية، الى غير ذلك من اشكال الاستعادة او الافتراضية التي تسجلها المؤلفة دون تحليل كبير او اجابة عن الأسئلة الكثيرة التي تثيرها الظاهرة.
من تلك الأسئلة ما يطرحه كاتب يهودي اسرائيلي هو هليل هالكين في مراجعة للكتاب نشرتها مجلة «كومنتري» الامريكية المعروفة بتوجهها اليهودي. ففي مراجعته يطرح هليل عدداً من الأسئلة: هل الاهتمام المشار اليه تعبير عن شعور الاوروبيين بالذنب ازاء اليهود؟ ام انه اعجاب صرف بما صنعه اليهود؟ هل هي عودة الى الماضي بالنسبة لجيل من الاوروبيين الذين عرفوا اليهود جزءا من محيطهم الاجتماعي والثقافي؟ ام انه استغلال تجاري/ سياحي لكل ما يتصل باليهود؟ ويرى هليل انه لا توجد اجابة واحدة عن تلك الأسئلة كلها، فقد يكون لكل جماعة مقصدها من تلك «اليهودية الافتراضية» لكنه يعبر عن انزعاجه من احتمال واحد يجده في الكتاب وهو ان الاحتفاء باليهود بدون يهود يتضمن امكانية الفصل بين الناس وثقافتهم، وبالتالي امكانية تقبل اليهود ورفض اسرائيل.
ذلك القبول والرفض الذي يخشاه هليل حاصل بالفعل، وفي تصوري انه واسع الانتشار في الغرب الآن، وليس بإمكان اسرائيل ان تحظى بنفس القبول الذي يحظى به الحضور الثقافي اليهودي العام متمثلا بكل اولئك الاعلام في العلوم والآداب وغيرها ممن انغرسوا في لحمة الثقافة الغربية. لكن هذا ليس موضوعنا هنا، وإن اتصل فلأن رواية سيبالد شاهد آخر على التمييز بين ما هو يهودي وما هو اسرائيلي في التفكير الاوروبي. ففي الرواية احتفاء واضح باليهودي ولاسيما من خلال صورته مثقفا وفنانا. غير ان ثمة ما يخدش صفاء تلك الصورة لا من حيث كون اوسترلتز، بطل الرواية، رجلا مسنا، وانما من خلال متاعبه النفسية التي ادخلته مصحة نفسية وجعلته يفكر بالانتحار غير مرة، ثم دفعته اثناء ذلك الى احراق رسائله وأوراقه.
على الجانب الايجابي من الصورة يتحدث اوسترلتز حديث المحلل الثقافي العميق الاطلاع، وملاحظاته على تطور اوروبا من خلال فنها المعماري شاهد على سعة الثقافة من ناحية ورهافة الحس من ناحية اخرى، وعلى نحو يذكِّر ولو بشكل خفيف وجزئي بدراسات الناقد الألماني اليهودي فالتر بنجامين لفن العمارة الباريسي. لكن المهم هو ان ملاحظات اوسترلتز تشف في الغالب عن اهتمامات اجدها لصيقة باليهود، وأقصد بذلك ما عبر عنه عدد من المفكرين اليهود من قلق ازاء الهيمنة الثقافية الاوروبية في بُعدها المسيحي والشوفيني او القومي المتعصب، كما نجد في تحليلات مفكرين مثل ادورنو وهوركهايمر لتاريخ التنوير الاوروبي بوصفه تاريخا من الهيمنة الايديولوجية.
في احدى ملاحظاته على العمارة الاوروبية يعبر اوسترلتز عن قلق مشابه، فهو يرى في احدى البنايات القديمة الضخمة في بروكسل، عاصمة بلجيكا، نموذجا للبناء الذي يرمز للهيمنة.
وفيما يلي مقطع من الرواية يصف فيه اوسترلتز البناية المعروفة ب«قصر العدل» في وسط بروكسل على نحو يوضح ما اشير اليه: «هذا الركام الهائل المتمثل في سبعمائة ألف متر مكعب، يحتوي على ممرات وأدراج لا تؤدي الى مكان، وغرف بلا أبواب وقاعات لا يمكن لأحد أن يطأها، اماكن فارغة محاطة بجدران تمثل السر الأعمق للسلطة المشروعة بأكملها. «والسلطة المشروعة هنا هي السلطة النازية او السلطة الفاشية، السلطتان اللتان نشأتا معاديتين لليهود وتركتا لديهم كأقلية رغبة في الابتعاد عن السلطة المركزية. ويمكن ان نستثني من ذلك كون السلطة المركزية معهم لا عليهم، كما هو الحال في الولايات المتحدة اليوم.
غير ان سيبالد ليس معنيا في روايته بواقع اليهود بقدر ما هو ما عني بماضيهم او بما يتصل من ماضيهم بماضيه هو كأوروبي ألماني محسوب على نحو ما ضمن الفئة التي سببت الكثير من المعاناة لليهود وغيرهم. ومن الواضح لقارىء الرواية ان الكاتب الالماني يود ان يصطنع «اليهودية الافتراضية» لمواجهة ذلك الماضي المزعج بالنسبة له ولغيره من الأوروبيين.
ففي احدى مقابلاته ذكر ان ما يعرف بالمحرقة أو الهولوكوست التي قتل فيها اليهود عبء ثقيل على كاهله وانه سعى الى الكتابة عن اولئك الذين نجوا منها. وأوسترلتز في نهاية الامر احد اولئك الناجين الذين يسعى سيبالد لتعويضهم بكتابة رواية عن متاعبهم، ويسعى الغرب اجمالا الى تعويضهم بمنحهم كل ما يمكن من قوة سواء في اسرائيل او غيرها.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved