تروي إحدى المشاهدات لليونسكو قول أحد الأميين من المزارعين الروانديين واسمه «جادفرويد» وعمره 57 عاماً، أنا لا أحتاج للقراءة ولا للتعلم، فسعر شراء جريدة واحدة يساوي سعر شراء كيلو واحد من الملح لأولادي ويقبع في ظلمة هذا التفكير الملايين من البشر ليس في القارة الإفريقية السوداء فحسب بل في سواد الجانب المعتم من الأمية المستشرية في العالم ليصل عدد البالغين الأميين إلى ما يقارب من ال 880 مليون شخص (وذلك نسبة لإحصاءات اليونسكو لعام 2000م) وكذلك يوجد 113 مليون طفل لم يذهبوا للمدرسة وتشكل نسبة الإناث الثلثين من النسب السابقة، وتطل نسب الأمية المخيفة لتصل إلى معدل 37 - 38% في الدول العربية والصحارى الداخلية في إفريقيا مجتمعة ولتصل أيضاً إلى 12% في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي. ويعلق خبراء المعرفة على أهمية نشر المعرفة ومحو الأمية حيث يصعد التساؤل الكبير للسطح وهو كيف سنبرر حرمان هؤلاء ال 880 مليون شخص من المشاركة في الحياة المعاصرة لمجرد أنهم يقطنون في مناطق بعيدة كالأرياف حيث يصعب الوصول اليهم، ويقول أحد الخبراء وهو البروفيسور H.S Bhola: تندرج أهمية القراءة والكتابة في المرتبة الثانية بعد الكلام في سلم إنسانيتنا، وفشلنا في تأمينها يجعلنا نحرم أولئك الناس من إنسانيتهم.
إن المعرفة قوة والمعرفة تحرر، وتكمن نجاعتها في محو الأمية باعتبارها المفتاح الأساسي في صندوق العدة لإعداد العائلة السليمة القادرة على تأمين قوتها وتقوية مشاركتها الفعّالة في الحياة الديمقراطية وحسب الخبير البروفيسور Daswani فإن موضوع خلق مجتمع معرفي يتعلق بالأجيال ولبناء عائلة متعلمة نحتاج للتخطيط لثلاثة أجيال، إن خاصية المعرفة لاتنصب فقط في رفع قدرة الفرد على القراءة والكتابة وإجراء بعض العمليات في الرياضيات بل في تشكيل اللبنات الأساسية لاستقلاله الذاتي وتذكيتها لمشاركة إيجابية في المجتمع الذي ينتمي إليه، وقد تم رصد مؤشرات إيجابية بخصوص ازدياد معدلات انتشار المعرفة عند النساء عن الرجال فمن 55% عام 1970م إلى 74% اليوم مقارنة مع ازدياد المعدل من 71% للرجال إلى 85% خلال الفترة نفسها.
ركّزت الأمم المتحدة في الاحتفال ال 38 «لليوم العالمي للمعرفة» الذي صادف في 8/9/2002م على شعار ان المعرفة هي بوابة الحرية وكما ناشدت الأمم المتحدة العالم تزيين جيدها في العقد القادم 2003-2012م بعقد المعرفة وذلك تطبيقاً للقرار رقم 54/122 الخاص بعقد المعرفة وان المعرفة للجميع الذي يشكل حجر أساس في بنود معاهدات الأمم المختلفة والخاصة بحقوق الإنسان ومعاهدات الحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ومعاهدة حقوق الطفل والمرأة.
علّق الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في يوم المعرفة العالمي لهذا العام قائلاً يجب ان تتسع رقعة الاهتمام الكونية بالمعرفة ونشرها في كل المجتمعات من خلال عائلة الأمم المتحدة والمجتمع المدني والخاص والجماعات المحلية والأفراد وكما قال إن هذا الموضوع يشكل تحدياً لكرامة الإنسان الذي يؤثر في صيرورته وتطوره، إن الفجوة في المعرفة وتوزعها جائرة ولها أكبر الأثر في قدرتنا على مد الجسور بين المستويات المتباينة - بين الرجل والمرأة - بين الغني والفقير - بين الذين يملكون تكنولوجيا المعرفة والذين لايملكونها - بين أولئك الذين يقطفون ثمار العولمة والذين هم ممنوعون عنها حيث كان قد علّق كوفي عنان سابقا على العولمة قائلاً: إن العولمة فرصة كبيرة للإنسانية غير ان فوائدها بعيدة عن التوزيع العادل، وكما ناشد الأمين العام المجتمع الدولي العمل الدؤوب لتخفيض عدد الأميين إلى النصف بحلول عام 2015م.
إن نشر وسائل المعرفة ضروري وحيوي جداً، والعالم مازال في دوامات الصراع يفرّغ طاقاته الحيوية فمنذ عام 1945م وحتى الآن يقدر ما أنفقه العالم على الأسلحة النووية ب8 تريليون دولار بينما تم توظيف أقل من 5 ،0% من هذا المبلغ للإنفاق على التعليم خلال نفس الفترة وإن تكلفة بناء غواصة باليستية أمريكية واحدة يقدر ب 1453 مليون دولار أمريكي، وهذا المبلغ وحده يضاعف ميزانيات التعليم المخصصة ل 129 مليون طفل في 18 بلدا فقيرا، ومازالت القدرات المالية تلعب دوراً في تسريع عملية التعلم فالبنغلاديشي يحتاج وسطياً إلى ان يعمل حوالي 8 سنوات لشراء جهاز كمبيوتر بينما يكلف ذلك الأمريكي راتب شهر..ان الالتزام ببدء العمل في التدفق المعرفي في أوصال المجتمعات يكفي لأن يجعل من هذه الجهود الصغيرة منارة لدروب محو الأمية عالمياً، ويواجه التدفق المعرفي ممانعة من بعض الحكومات وقد اختلفت النظريات في تفسير أسباب هذه الممانعة، فمنها من يرجح ان بعض الحكومات تسعى لتهميش البالغين والتركيز على الأطفال ومدارسهم لضمان جيل معرفي في المستقبل بينما يؤكد الخبراء على ان إعادة نشر المعرفة بين البالغين ولاسيما الآباء سيؤدي إلى تحفيز الأطفال مما يضفي معاني كثيرة على خبرة الأطفال في مدارسهم ومن النظريات أيضا هي ممانعة بعض الحكومات لنشر نور المعرفة خوفاً على إحياء الديمقراطية في مجتمعاتهم وذلك نظراً للجسر المحكم الواصل بين المعرفة والديمقراطية وهذا أشبه باحتكار طبقة الكهنة ورجال الدين قديماً للمعلومة لبناء سيادة الدولة على الخرافات وأساطير الأولين وتضليل الشعوب لكي تنقاد وراء أوهامها وتسهل السيطرة عليهم.تشير آخر احصاءات اليونسكو إلى ان معدل سرعة انخفاض عدد الأميين متفاوت بين البلاد فنسبة عدد الأميين في البلاد العربية مجتمعة وصل في عام 2000م إلى 30% ويتوقع ان ينخفض إلى 20% بحلول عام 2015 بينما في إسرائيل وحدها يبلغ عدد الأميين ما معدله 5% ويتوقع ان يصل إلى 2% في عام 2015م.إن التباين في مؤشرات التعليم بين الدول كبير، ففي الدول المتقدمة التي تحوي فقط 22% من مجموع سكان العالم (ويستحوذون على 61% من الناتج القومي العالمي) يساهمون بما يقدر ب 84% من مجمل الانفاق العالمي على البحث العلمي والتطوير.
شهد العالم تزايد الطلب على التعليم خلال العقود الأخيرة، ويجب على التعليم ان يستجيب من حيث نوعيته وأنماطه للاحتياجات بطريقة فعالة على مستوى الكوادر والتكاليف بتوظيف مثالي للموارد المتاحة وان دور المعلمين وزيادة نتائج التعلم حيوي ويحتاج إلى تحسين أداء النظم التعليمية وإخراج المدارس والكليات والجامعات من ربقة جمودها كمعابد قدسية لتكون منارات فكرية تستقطب الطاقات وتوظفها في عملية النهوض بالمجتمع ولذلك يجب التركيز على تأهيل كوادر التعليم من مدرسين ومهنيين قبل التركيز على الطلاب أنفسهم.
تبصّر العالم بحدقة أوسع بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مشاكل انعدام الأمن من باب العنف والإرهاب الكوني ولما يتبصّر ان لانعدام الأمن أبواباً أخرى من فقر وأمية وفساد ووحدهما المعرفة والثقافة يمكن أن تشكلا حاجزاً مناعياً لجدار الحضارة الإنسانية.ويمكن ان يبدأ العالم بالتحول الإيجابي على طريق نشر المعرفة ومحو الأمية عندما يدرك المزارع الرواندي «جادفرويد» في ان المعرفة تساوي شراء كيلو ملح لأولاده ان لم تكن أهم، ويعي قول أحد الحكماء المعرفة سلعة مميزة، كلما تخليت عنها خسرت الكثير.
|