عندما وقعت الهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي في نيويورك، كان الإحساس بالفزع والرعب بين العاملين هو الأمر الطبيعي، وفي مثل هذه الحالات يتصرف المرء وفق ما تمليه عليه غريزته ولا يتصرف وفق قواعد بروتوكولية جامدة، ويمكن حصر النصائح المؤدية إلى النجاة هنا في عدد من اللاءات.. لاتتوقف للتعرف على ما يحدث.. لاترجع إلى الوراء لالتقاط حقيبتك.. لاتصغي للبيانات الحكومية بأن المبنى آمن!.. لا تستخدم السلالم بل استخدم المصعد.
وفيما يتعلق بما حدث لمركز التجارة العالمي، لم يكن هناك مجال للهروب بالنسبة للعاملين في الطوابق العليا التسعة عشر بالبرج الشمالي والبالغ عددهم نحو 1400 موظف بعد اصطدام أول طائرة بالطابقين 94 و98 عند الساعة 46 ،8 صباحا، إلا أنه كانت لاتزال هناك فرصة أمام العاملين في الطوابق العليا بالبرج الجنوبي للهروب، فقد كان التأخير يعني الموت بالنسبة لهم، حيث كانت هناك أمامهم 16 دقيقة ونصف تفصلهم عن اصطدام الطائرة الثانية رحلة رقم 175 التابعة لشركة «يونايتد اير لاينز» بالطوابق من 78 - 84 من البرج الجنوبي.
وفيما يلي روايات الناجين من الكارثة بعد مرور عام على الحدث الذي هز العالم.
الاختيار الصعب
واجه أكثر من 2000 شخص خيارا صعبا خلال هذه الفترة الوجيزة في هذه الطوابق وما يعلوها: إما البقاء أو الفرار، وعلى الرغم من انهم كانوا يجهلون ماستأتي به المقادير الا ان واقع الحال كان يشير إلى انهم اذا تحركوا بسرعة فسوف تكتب لهم النجاة، وقد هرع 1400 موظف من الأدوار العليا بالبرج الجنوبي إلى منطقة آمنة اسفل الطابق 78 بينما لم يفعل ذلك 600 موظف. وقامت صحيفة يو.اس.أيه، توداي بإجراء مقابلات مع أكثر من 300من الناجين وأسرهم من العاملين بينهم 100 من البرج الجنوبي، وفحصت الصحيفة رسومات طوابق المبنى واشرطة الفيديو والصور الفوتوغرافية التي تم التقاطها لحظة وقوع الهجوم، وقامت بتحليل قاعدة بيانات خاصة بأكثر من 2800 موظف من الذين قتلوا أو فقدوا في الهجوم على مركز التجارة العالمي، كما اطلعت على التحقيقات الرسمية الخاصة بانهيار المبنى ورد رجال الإطفاء والشرطة واستجابتهم للهجوم.
عوامل مهمة
لا يمكن التعرف على ما كان يفكر فيه العاملون الذين قتلوا في صباح يوم وقوع الهجوم على البرج الجنوبي، أو على وجه التحديد ما الذي منعهم من الوصول إلى مناطق آمنة، الا ان البحث الذي أجرته الصحيفة يكشف انه خلال 5 ،16 دقيقة بين وقوع الهجوم الأول والثاني يكشف ان هناك أربعة عوامل مهمة تحدد الذين خرجوا من الطوابق العليا للبرج الجنوبي، ومن هم الذين اخفقوا في ذلك.
ان مشهد الأشخاص وهم يقفزون للنجاة من النار والدخان، كان حافزا على عملية الاخلاء، فقد اتيحت الفرصة للعاملين في الجانبين الشمالي والغربي من البرج الجنوبي التعرف على الفور على مدى خطورة الدخان وألسنة اللهب في البرج الشمالي، ثم مشاهدة العاملين وهم يقفزون من الطوابق العليا به ليلقوا حتفهم على الفور هربا من هذا الجحيم.لقد كان الموت والحياة بالجملة، وتأثر العاملون بمن حولهم في اتخاذ قرار البقاء أو الهروب، فاذا أمر رئيس المكتب العاملين بالذهاب فانهم سوف يخرجون، واذا بقي هو في مكانه فانهم حتما سوف يبقون، هرب كثيرون من الذين لم يشاهدوا أو يشعروا بشيء من تأثير اصطدام الطائرة الأولى بسبب الخوف الذي لمسوه في أعين زملائهم الذين شعروا بذلك. وكانت احتمالات مغادرة العاملين الذين يحصلون على تعويض جيد قليلة بعض الشيء، على سبيل المثال السماسرة بأسواق المال، كما ان احتمالات مغادرة العاملين ذوي الدرجات الادنى كانت اكبر من الموظفين التنفيذيين البارزين، لقد لقي عدد من المديرين والموظفين التنفيذيين مصرعهم نظرا لانهم أمضوا لحظات حرجة للتأكد من ان جميع مرؤوسيهم قد خرجوا.
بيانات إذاعية متضاربة
كانت البيانات التي نقلتها الإذاعة الداخلية - على الأرجح - والتي أفادت بان المبنى «آمن» سببا في مصرع مئات الأشخاص عقب اصطدام طائرة الرحلة رقم 11 التابعة لشركة «ايرلاينريونايتد» بالبرج الشمالي، فقد أعلن مسؤولو الإطفاء بهيئة المطارات في نيويورك ونيوجيرسى التي تشرف على تشغيل مركز التجارة العالمي عدة بيانات عبر شبكة الإذاعة الداخلية أكدت فيها ان البرج الجنوبي آمن وانه لا حاجة لاخلاء العاملين به الذين كانوا في طريقهم للهروب.
وفي غضون خمس دقائق من إذاعة آخر بيان اصطدمت الطائرة الثانية بالبرج الجنوبي، وهو وقت يمكن للمصعد ان يقوم خلاله برحلتين إلى ردهة البرج وحمل مئات من الأشخاص إلى الأمان، كان يمكن ان يكون بيان إذاعي من قبيل ابقوا في اماكنكم لتجنب الظروف الخطيرة في الخارج بمثابة نصيحة غالية في أي موقف آخر وليس في هذا الموقف.
وعودة إلى الهجوم على مركز التجارة العالمي في فبراير عام 1993، حيث تصرف العاملون بأسلوبين عندما انفجرت شاحنة ملغومة في الجراج الكائن تحت الأرض مما أسفر عن مصرع ستة أشخاص بينما أمضى مئات العاملين ساعات طوالاً في النزول عن طريق سلم النجاة في ظلام دامس لاخلاء المبنى.
لقد ترك هذا المشهد أثره في نفوس العاملين الذين شهدوا هجوم الحادي عشر من سبتمبر الماضي حيث سارعوا بالخروج نظرا لمعرفتهم بالوقت الذي تستغرقه هذه العملية، فضلا عما توافر لديهم من خبرة في استخدام سلالم النجاة في النزول وكيفية الخروج بسرعة من المبنى، الا ان البعض الآخر تأخر في الخروج بدافع الثقة في الحصول على مساعدة رجال الإطفاء والاطمئنان إلى ان المبنى سوف ينجو كما حدث من قبل.
واجه العاملون في البرج الجنوبي خيار الموت أو الحياة بعد ان انقطع اتصالهم بالعالم الخارجي، فضلا عن قلة المعلومات المتوافرة لديهم عما يحدث بالمبنى مقارنة بما هو متاح لملايين المشاهدين للحدث على شاشات التليفزيون، لقد كانت تجربة حزينة لمن شهد هذا الهجوم حيث كان يفصلهم القليل عن اصدقاءوزملاء لهم فقدوا ارواحهم في هذا اليوم.
داداريو يشاهد الجحيم
أسفر اصطدام الطائرة الأولى بالبرج الشمالي عن وقوع انفجار تصاعدت منه كرة من اللهب تجاوزت البرج الجنوبي مثل مذنب رهيب، وفي الطابق 87من البرج الجنوبي، كان بيرني داداريو - ممثل خدمة العملاء بشركة سيرفيسكوربوريشن مع زميل له عندما سمع صوت انفجار ضخم، وعندئذ نظر من النافذة وعلى مسافة عشرة اقدام شاهد كرة من اللهب تندفع بسرعة البرق بجوار المبنى الذي يعمل به، وكانت الكرة تقترب من نافذة لأخرى إلى ان أصبح كل ما يمكن مشاهدته هو كرة من اللهب خارج البرج الجنوبي، وكانت درجة الحرارة العالية جعلت داداريو يتصبب عرقا، ثم اختفت كرة اللهب وتناثرت الأوراق في الهواء، وعندئذ وجد داداريو نفسه يقول : ياله من جحيم!
التوام والطائرة
في مكتب شركة التوكيلات التجارية بالطابق 97 كان محلل السندات يزف إلى رئيسه انتوني فينتورا خبر ولادة زوجته توأم عندما التقطت عيناه مشهد طائرة مسرعة باتجاه الجنوب فوق مانهاتن، ووجد نفسه يصرخ: القوا بأنفسكم من النوافذ بينما القى هو بنفسه من الطابق في الوقت الذي اصطدمت فيه الطائرة بالبرج الشمالي على بعد أربعين ياردة.
في هذه الاثناء أسرع سوليفان مراقب الإطفاء بنفس الطابق بالمبنى- وهو ضابط احتياط سابق بالجيش - من مكتبه وصرخ في زملائه طالبا منهم فتح سلالم النجاة، ولم ينتظر لأخذ أي شيء حتى خاتم زواجه الذي كان ملقى بجوار لوحة المفاتيح، ولم تحدث ضوضاء في مناطق أخرى من البرج الجنوبي اللهم إلا سيارة ملفات شوهدت وهي تتدحرج عبر سلم النجاة أو انفجار جهاز تكييف.
في إدارة ضرائب نيويورك، كان عدد الوفيات كبيرا في مكاتب الطابقين 86 و87 حيث لم يكن بوسع الموظفين مشاهدة ماحدث في البرج الشمالي، بينما لقي خمسة أشخاص مصرعهم من بين ثمانية أشخاص في مكتب جرائم الدخل بالركن الجنوبي الشرقي من الطابق 86 وهو أبعد نقطة عن البرج الشمالي المحترق، وفي الركن الجنوبي الشرقي من الطابق 87 فقد مكتب خدمات الوساطة بإدارة الضرائب ستة من موظفيه السبعة الذين كانوا بالمكتب.
كانت راجوانت واليا - 56 عاما - وهي سكرتيرة بمكتب الوساطة في المجمع التجاري الكائن تحت الأرض بمركز التجارة العالمي عندما اصطدمت أول طائرة بالبرج، وعندئذ صرخت في زميلتها فيتى اندرسون - 53 عاما طالبة منها سرعة المغادرة، وفي هذه اللحظات ترامت إلى اسماع اندرسون بيانات الإذاعة الداخلية التي تطمئن الموجودين في البرج الجنوبي بأنهم ليسوا بحاجة إلى الخروج، وقالت انهم يقولون ان المبنى آمن ولم تتح الفرصة لاندرسون لرؤية مشهد الحريق في البرج الشمالي، وكانت النتيجة ان ماتت فيتى اندرسون ونجت راجوانت واليا من موت محقق.
كارثة في قاعات المؤتمرات
في قاعات المؤتمرات الداخلية لم يسمع الموجودون بها أو يشاهدوا شيئا مما يحدث حولهم، وكانت النتيجة نجاة ستة أشخاص فقط من بين خمسين مشاركا في اجتماع لشركة اون كوربوريشن للتأمين في الطابق 105، كان جوديتمار- مسؤول التأمين من شيكاغو قد وصل إلى مقر الاجتماع مبكرا للقاء رئيسته ماري وايمان المسؤول التنفيذي بشركة اون، وعند الساعة 46 ،8 صباحا انقطعت الإضاءة لفترة وجيزة. وتروي اليزابيث باريس - 36 عاما - بالشركة التي كان مقررا ان تقدم العرض المرئي للاجتماع هذه اللحظات قائلة لقد ضحكنا، وقلنا ما العمل الآن ؟ وفي هذه اللحظات جاء ريتشارد بلود ليبلغ المجموعة بان انفجارا وقع في المبنى المجاور، وانه يجب على كل شخص ان يغادر المكان، وقبل ان ينتهي من كلامه كانت باريس قد فرت من المكان وهي تردد في نفسها أتمنى ألا أتعرض لمتاعب عند سلم النجاة، قال بلود أنا مسؤول الإطفاء، ولا أستطيع ان أغادر قبل ان تخرجوا جميعا.. مشيرا إليهم باتباعه وسارت المجموعة نحو سلم النجاة وعندما اقتربت من الطابق 78 شاهد جوديتمار كلا من وايمان وآخرون يتجهون إلى ردهة المصعد وهي نقطة الانتقال من منطقة المصاعد الداخلية التي تخدم الأدوار العليا إلى المصاعد الكبيرة السريعة المتجهة إلى الدور الأرضي.
الحيرة بين البقاء أو الهروب:
عندئذ سمع جوديتمار - وايمان تقول انني لا أعرف مايجري، الا أننى لن أنزل كل هذه الدرجات وماتت هناك، وفي ردهة المصعد المزدحمة استولت الحيرة على أشخاص - بعضهم زملاء لها- هل يبقون أم يغادرون.
كان مايك دون، 29 عاما، ويعمل مستشارا بمجموعة استشارات كين يحضر اجتماعا مع زميلته سوزان كوندارتينكو، 27 عاما، مع ستة مسؤولين بشركة اون بالطابق 92 ولم يسمع أحد منهم بأي شيء إلى ان سمعوا صوت صراخ قادم من الخارج، عندئذ خرجت المجموعة لتجد ان كل الناس يهرولون باتجاه سلم النجاة، وكانت رائحة الدخان تزكم الأنوف، بينما كانت أجهزة التهوية تقذف بالدخان من الخارج إلى الداخل.
أسرع دون للانضمام إلى الاجتماع الذي كانت زميلته داريا لين 32 عاما، تلقي فيه محاضرة عن تعليم الكومبيوتر على موظفي شركة اون وفي هذه اللحظات طلبت من الحاضرين سرعة مغادرة المكان بسبب اندلاع حريق بالمبنى.
اندريشيا تلقي بالتليفون
كانت اندريشيا دوجلين بريل التي انضمت للعمل بشركة اون منذ اسبوع واحد تحضر اجتماعا في ذلك الوقت وقد سارعت إلى الهروب إلى غرفة مجاورة حيث اتصلت بمكتب زوجها ميدتاون في الوقت الذي تعالى فيه الصراخ حولها، وعندئذ سألت: ماذا يحدث؟ وعندما تحولت للنظر عبر النافذة شاهدت مايشبه حطام وركام يتساقط من البرج الشمالي وفي هذه اللحظة أدركت انه ليس مجرد ركام، اما الأشخاص الذين أصابهم اليأس فقد قفزوا من النوافذ ليلقوا حتفهم على الفور، ولم تشعر اندريشيا بنفسها وهي تلقي بسماعة التليفون على الأرض وتجري مسرعة للنجاة بحياتها، وقد نجت.
كان العاملون في الطوابق العليا من البرج الجنوبي في نفس مستوى الذين قفزوا من البرج الشمالي، حيث كانوا أقرب إليهم إلى الدرجة التي سمحت لهم برؤية وجوههم وملابسهم وكيفية تقريرهم لمصيرهم، ان مصرع هؤلاء العاملين انقذ حياة الكثيرين من العاملين بالبرج الجنوبي، فقد دفع المشهد الرهيب مئات بالبرج الجنوبي إلى الإسراع إلى منافذ الخروج.
توقف جوديتمار عند الطابق 90 الذي وصله مهرولا من الدور 105 وأسرع إلى إحدى النوافذ لمشاهدة ما لحق بالبرج الشمالي وعندئذ فقط وقف على حقيقة الأمر، ويصف جوديتمار هذه اللحظات قائلا لقد استدرت ولم أستطع مواصلة النظر.. لقد شاهدت ما شاهدت وعرفت ما شاهدت، وقلت لنفسي لا بد من الخروج من هذا المكان.
مرت ست عشرة دقيقة ونصف الدقيقة من الشكوك والخوف حصل خلالها العديد من العاملين بالبرج الجنوبي على الإذن من رؤسائهم بالخروج، ومع ذلك، ظل المديرون التنفيذيون لشركتي ساندلر اونيل بالطابق 104 و كيفي بروييت وودز بالطابق89 في أماكنهم مما أسفر عن مصرع 66 شخصا من شركة ساندلر بينهم مديران كانا بالمبنى ولم ينج سوى 17 موظفا بينما لقي 67 موظفا مصرعهم من شركة كيفي بروييت ونجا 14 شخصا بعد ان اتخذ رئيسها جوزيف بيرى القرار الواضح لحماية شركته عقب الهجوم على البرج الشمالي، حيث طلب من مدير الحسابات مايك ماكدونيل الاتصال بفرقة مكافحة الحرائق بالمبنى للحصول على إرشادات بشأن ما ينبغي القيام به حيث تم إبلاغهم بالبقاء في أماكنهم.
المديرون يضحون بأنفسهم
كان نصف الضحايا من البرج الجنوبي، 284 قتيلا، من الشركات التي كانت لها عمليات تجارية مثل: ساندلر، بروييت، يوروبروكرز، فيديو شاري تراست، وهنا يقول بيل هينينجسون نائب رئيس شركة بروييت الذي كان من بين القلائل الذين نجوا من الطابق 89 اننا نفكر بعقلية وول ستريت.. انك تاجر، ويجب ان تكون قويا، لا تغادر الا حينما يطلب منك ذلك رجال الإطفاء، ولايجب عليك ان تترك الطابق بسبب أي شيء حتى ولو إلى دورة المياه لقد ترك خمسة فقط من بين 45 شخصا في طابق التعاملات التجارية أماكنهم ونجوا بينما لقي بعض المسؤولين البارزين للمساعدة في عمليات إخلاء مكاتبهم ولقوا مصرعهم. وفي أسواق مال فيوجي شاهد ثلاثة مديرين الانفجار بالبرج الشمالي وسارعوا الى غرفة التعاملات التجارية بالطابق 80 حيث لم يشاهد أحد شيئا، وهنا صرخ كيجي تاكاهاشي 42 عاما، قائلا انها قنبلة، اخرجوا.. اخرجوا، وفي هذه الاثناء خلا طابق التعاملات التجارية من الناس ونجا من موظفيه 120 موظفا الا ان تاكا هاشي ومديرين آخرين لم يشاهدوا مرة أخرى بعد ذلك.
كان كلايد ايبانكس، 36 عاما، بشركة اون يجلس في قاعة المؤتمرات بالركن الشمالي الغربي بالطابق 103 وظهره إلى النافذة وعندما شاهد علامات الفزع على وجوه زملائه استدار للنظر من النافذة ليرى طرف جناح طائرة وهو يختفي داخل البرج الشمالي، وعلى الفور أصدر رئيسه كريس جاردنر أوامره بضرورة مغادرة الجميع للمكان، ويقول ايبانكس لقد بدأت في حزم حقيبتي مع جهاز الكومبيوتر الشخصي والملفات ووقفت هناك، وظل المدير يصرخ، وكنت آخر شخص يغادر القاعة بعد المدير الذي لم يغادرها الا بعد ان غادرت أنا القاعة وشوهد جاردنر وهو يجري لآخر مرة نحو مكتبه صارخا في زملائه بضرورة المغادرة.
خرج جميع العاملين في شركة سيرفيس كوربوريشن وعددهم ستون موظفا بناء على اوامر المديرين التنفيذيين، بينما فقدت إدارة الضرائب التي لم يصدر بها اوامر إخلاء تسعة من موظفيها العشرين بالطابق 87 بينهم اثنان من ثلاثة أشخاص بارزين بها.وكان جون بيلليتيرو، أحد المديرين التنفيذيين بشركة سيرفيز كوربوريشن، قد أصدر أوامره بالاخلاء وأسرع داداريو وزميله لو جياكاردو بالنزول من الطابق واتصل بيلليتيرو بمقر الشركة في ديلاور لابلاغهم باخلاء المكتب ثم اغلق الباب واستقل المصعد وفر من المبنى.
طائرة على ارتفاع منخفض
كان ماني اوزري، 59 عاما يحتسي القهوة في الردهة، وهو محقق بإدارة الضرائب، مع شارلز ميلز، 61 عاما ووليام بولمان، 56 عاما، عندما شاهد أول طائرة وهي تسرع باتجاه الأبراج، وعندئذ صرخ قائلا: شارلي انظر.. ان هذه الطائرة تطير على ارتفاع منخفض جدا وانبطح على الأرض قائلا : ان هذه الطائرة بسبيلها إلى ضربنا.
أقنع صفاء السماء والسيطرة القوية على الطائرة اوزري ان الاصطدام ليس سوى هجوم ارهابي، الا ان الحريق كان بالبرج الشمالي، لذا قرر ان البرج الجنوبى ليس في خطر، كان تفكير فرجينيا، زوجة ماني اوزري التي تعمل محاسبة في إدارة الضرائب عكس تفكير زوجها، كانت فرجينيا واحدة من أولئك الذين لايشعرون بالارتباح ازاء استخدام المصاعد في مبنى تعرض للهجوم من قبل على الرغم من المناظر الجميلة التي تتيحها عملية ركوب المصعد.
فرجينيا تنقذ زوجها
كانت فرجينيا قد نصحت زوجها منذ وقت طويل بان يقابلها عند الطابق 86 عند سلم النجاة «ج» في حالة حدوث أي شيء قائلة له لن اغادر المبنى بدونك وفي هذا الصباح أسرعت إلى المكان المحدد وهي تصرخ وساقاها تضطربان متوقعة نزول زوجها لمقابلتها، الا ان ذلك لم يحدث، فقد كان الحريق في المبنى الآخر، واعتقد زوجها انه من الاكثر امانا البقاء في الخارج، وعندئذ ظهرزميلان من الطابق 86 وقالا له عليك ان تنزل معنا لتساعدنا في التعامل مع زوجتك التي انتابتها حالة هستيرية واستجاب لهما اوزري وكانت النتيجة نجاة الاثنين معا وهنا قال ماني: لقد انقذت زوجتي حياتي اما ميلز وبولمان اللذان كانا يحتسيان القهوة مع ماني وكبار المسؤولين بإدارة الضرائب فقد لقيا حتفهما.
عاد بعض الأشخاص إلى مكاتبهم بعد سماع بيانات تصدر من مكبرات الصوت بالمبنى تؤكد ان مبنى البرج الجنوبي آمن وكان قد تم تزويد المبنى بهذه المكبرات بعد هجوم عام 1993 الا ان كلمات البيانات لم تكن مفهومة على وجه الدقة، ان جميع الناجين يتذكرون كلمة المبنى آمن ثم جاء بيان آخر يقول انه بامكان الناس العودة إلى مكاتبهم واعتبر بعض الناجين هذا البيان بمثابة امر بالعودة، بينما اعتبره البعض الآخر مجرد الاختيار بين العودة أو مواصلة الهروب، والبعض لا يزال يتذكر بيانات تقول انه بامكان الناس المغادرة اذا كان هناك دخان في مكاتبهم، وعلى أية حال فقد صدر بيانان أو ثلاثة عقب تحطم الطائرة الأولى وقبل اصطدام الطائرة الثانية، من المرجح ان يكون واضع هذه البيانات رجل إطفاء متقاعد من نيويورك عمل مع شركة أو. سي.اس، للامن التي أبرمت عقدا لتأمين مركز التجارة العالمي ضد الحريق تحت إشراف هيئة الموانىء.
كان مديرو التأمين ضد الحرائق والمسؤولون عن إدارة الإطفاء بالبرجين من بين الذين نجوا من الحريق، ورغم ان موظفي شركة أو.سي.اس، قتلوا في انهيار البرجين الا انه ليس بالامكان تأكيد من هو الذي تحدث في الميكروفون من مركز إدارة الإطفاء في ردهة البرج الجنوبي، لقد تم تدريب مديري التأمين ضد الحريق على كيفية قراءة البيانات، الا ان البيانات التي صدرت في الحادي عشر من سبتمبر كانت مختلفة عن نسخ البيانات التي تم التدريب عليها وربما يرجع ذلك إلى الطبيعة غير المسبوقة لهذا الحدث حسبما يقول مايك هيرلي مدير التأمين ضد الحريق في هيئة الموانىء الامريكية.
من أصدر أمر إذاعة البيانات؟
لا يعرف من هو الذي أصدر أوامره بإذاعة هذه البيانات التي كانت تهدف بوضوح الى إبقاء شاغلي البرج الجنوبي بداخله بعيدا عن سقوط حطام البرج الشمالي، اذن لقد تم اعلان البيانات بدون علم ان الطائرة الثانية في طريقها الى مركز التجارة العالمي.
وعلى الرغم من ذلك، فقد غيرت هذه البيانات من مسار حركة الاخلاء، وعاد بعض الأشخاص الذين كانوا قد فروا من قبل إلى مكاتبهم او بدأوا في العودة، بينما توقف آخرون عن مناقشة ما الذي يفعلونه، كانت ردهة مصعد الطابق 78مزدحمة بالأشخاص المتجهين إلى كلا الاتجاهين، كانت جوانيتا مينديز التي عملت في إدارة التسويق بمجموعة واشنطن تقف مع زميلة لها في شارع ليبيرتي عندما اصطدمت الطائرة الأولى بالبرج الشمالي وعندما عادتا إلى عملهما بالطابق91 تم ابلاغهما بضرورة المغادرة وعندئذ عادتا إلى ردهة المصعد 78 حيث انتقلتا الى المصاعد السريعة المتجهة إلى الدور الأرضي مع اثنين من المديرين هما بوب ديانجليس وفرانك موتشيا.
عندما سمع داتشيا البيان التحذيري ضحك في نفسه، واستقلت النساء المصعد المتجه الى الأرض بينما عاد الرجال إلى عملهم والى قدرهم المحتوم حيث لقوا مصرعهم، كان اعتقاد البعض منهم انهم يعودون الى الامان بينما استقل ثلاثة من كبار المسؤولين من بنك فيوجي مصعدين من الطابق 81 إلى الأرض مع ستانلي سميث، 44 عاما، وهو مسؤول القروض بالبنك، وهناك استوقفهم موظفو المبنى وسألوهم إلى اين انتم ذاهبون؟ ان المبنى آمن، ان وضعكم داخل المبنى أفضل منه خارجه.
الطائرة الثانية قادمة
وهنا قال برايمناث ضاحكا لبريان طومسون رئيس الموارد البشرية ربما هذا هو أفضل وقت لاخلاء المبنى وعاد الرجال الأربعة إلى المصاعد وعاد برايمناث الى مكتبه للاتصال بزميل له في شيكاغو وعندما نظر إلى ساعته كانت تشير الى الساعة التاسعة وثلاث دقائق صباحا وفي هذه الاثناء كانت الطائرة الثانية تتجه مسرعة إلى المبنى الذي يعمل به ولم ينج من الأربعة سواه.
عندما تعرض مركز التجارة العالمي للهجوم في السادس والعشرين من فبراير من عام 1993 بسيارة ملغومة تم تفجيرها في الجراج الخاص به لقي ستة أشخاص مصرعهم بينما اضطر آلاف آخرون إلى السعي خلال الظلام من اجل النجاة عبر السلالم الخاصة بذلك بعد ان توقفت حركة المصاعد، ومنذ ذلك الوقت تم تزويد رجال الاطفاء بقبعات حمرا ء وصفارات، وفي أسواق مال فيودي تم تزويد الموظفين بحقائب إخلاء حمراء تتدلى من مقاعدهم لتذكرهم باحتمال وقوع هجوم واحتوت هذه الحقائب على غطاء للرأس والوجه واق من الدخان ومقدار من المواد السكرية وزجاجة مياه.
وفي شركة يوروبروكرز بالطابق 84 من البرج الجنوبي كانت هناك ذكريات أليمة أيضا فقد القى نائب رئيسها لشؤون التكنولوجيا شارلز فينيزيانو 34 عاما، بجهاز التليفون على الأرض وفر هاربا بعد اصطدام الطائرة الاولى بالبرج الشمالي، وهرولت اجنيز فرانسيس، سكرتيرة بإدارة الضرائب، فورا من الطابق 87 ومنذ عام 1993 لم تتناول اجنيز وجبة غذاءها في مكتبها حيث وقع الهجوم في ذلك الوقت عند الساعة 18 ،12 ظهرا.ويرى بعض الناجين من هجوم 1993 ان هذا الهجوم يوفر درسا مرعبا ومختلفا حيث لم تكن هناك حاجة للإسراع بالمغادرة، ففي عام 1993 استغرق الأمر نحو أربع ساعات للمرور عبر السلالم إلى بر الأمان، بل ان بعض الموظفين لن يغادر مكانه الا بعد ان قفز إليهم رجال الإطفاء في طوابقهم بعد ساعتين من الحادث.
سر اللامبالاة!!
في هجوم سبتمبر كانت سلالم النجاة خالية من الدخان، ولم تنقطع الإضاءة، على النقيض مما حدث عام 1993، لقد سمعت جياني باجان موظفة الاستقبال بشركة اون بالطابق 99 الناس يقولون لقد كنا هنا عام 1993 ومع ذلك شق معظم الموظفين طريقهم للخروج من المبنى.
تقول ان فوديم من شركة فيديو شياري تراست ان هجوم عام 1993 اشاع حالة من اللامبالاه بين الناس بشكل كبير.. لقد تأثر عدد قليل جدا من الأشخاص بما حدث، في الوقت الذي تقدم فيه كل شخص تقريبا للمشاركة في عمليات الانقاذ، كانت فوديم قد نجت من هجوم 1993 الذي جعل الموجودين يعتقدون انهم ربما لايعودون إلى مكاتبهم قبل عدة شهور لذا قام بعضهم بتأخير المغادرة حتى ينتهى من جمع متعلقاته.
كثيرا ما كان التأخير بسبب الرد على مكالمة تليفونية من عميل، كما فعل مسؤول بشركة اون أو الرد على مكالمات مذعورة من أشخاص يسألون عن الأوضاع بالمبنى كما فعلت موظفة الاستقبال بشركة باسيلين للخدمات المالية، وفي الوقت الذي كان يصرخ فيه سوليفان في كل شخص طالبا منه الخروج من شركة فيديو شياري تراست أسرع رئيسه فينتورا للبحث عن والدة زوجته فيليشيا هاملتون التي تعمل بنفس الشركة، وكان ذلك آخر عمل يقوم به زوج ابنة طيب القلب حيث لقى فينتورا وهاملتون مصرعيهما.
تاميتا تذهب ضحية رضيعها !!
عادت تاميتا فريمان ، 35 عاما، الموظفة بشركة اون تحمل طفلها الرضيع لالتقاط حافظة نقودها لأن بها صور ابنها الرضيع حسبما ابلغت زميلتها ماريسا بانيجروسو ولكنها لم تعد مرة اخرى، وكانت آمي وينتروب، 35 عاما وبريان موران، 32 عاما مع اثنين من زملائهما بشركة اون على أحد سلالم النجاة عندما ترامى إلى اسماعهم البيان التحذيري، عندئذ توقفوا وسألوا أنفسهم عما اذا كان يتعين عليهم العودة أم لا، في هذه اللحظة قالت موران اريد سيجارة في الوقت الذي واصل فيه الأربعة النزول وكانت النتيجة نجاتهم جميعا.
غادر ستيف ميللر مكتبه بأسواق مال فيوجي بالطابق 80 في نفس اللحظة التي جاء فيها رئيسه مهرولا عبر طابق التعاملات التجارية ونزل إلى الطابق الخمسين حيث استقل المصعد العائد، ودون ما سبب حقيقي، سارع بالخروج منه قبل ان تغلق ابواب المصعد، ودخل أحد المكاتب الذي كان الناس يشاهدون منه المجزرة في البرج الشمالي وهم يصرخون بفزع، وبعد لحظة اهتز المبنى وتساقط الغبار حول الغرفة حيث اصابت الطائرة الثانية أكثر من عشرين من الطوابق التي تعلوهم، وعندئذ أسرع ميللر إلى سلم النجاة ونجح في الخروج من المبنى.
يقول ميللر ان النتيجة التي خرجت بها هي أنني أعتقد انني تصرفت بذكاء.. فاذا أسرعت نجوت.. كل من أسرعوا نجوا.
|