*عمان الجزيرة خاص:
أكثر الشاعر امجد ناصر ليلة اول امس في حفل توقيعه كتابه «الاعمال الشعرية» الصادر اخيرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر من التذكر.
كان مفتونا بالحكي والنثر فأتى الينا بحياة استعادها من الماضي بل من «مطرح الالتباس والمراوغة».
اذ تختلط الذاكرة بالمشاعر والدوافع والموقف من العالم وما طرأ فيه من تغير او تحول في الماضي والحاضر.
وقال الشاعر امجد ناصر:اذا كان التمرد على العائلة، الانتماءات الضيقة يعتبر بداية ما، فان بدايتي كانت كذلك، وما كنت احسب انها ستأخذني الى طريق لا اعود منها، اي الى تلك الطريق التي كانت تتمناها المرحومة امي لكل من تود ان يبتلعه المجهول: طريق تصد وما ترد! وفي الطريق التي لا ترد سالكها وضعت اولى خطواتي.
كان «الهجيني» «القصيد» خزائن ذاكرة جدتي العجيبة، الالتماعات النادرة في القصائد المكفهرة في المنهاج المدرسي، تلاوات القرآن، جفاف المحيط وصرامته هي التي شكلت الخلفية البعيدة لغواية الكلمات، الهرب الى العالم المتخيل الذي تقيمه، حتى يجيء ذلك اليوم الذي كلفت فيه بكتابة مسرحية مدرسية متحت مما كان يبثه التلفزيون من اعمال درامية سائدة.
واضاف: كان ذلك مجرد تمرين اولي فيه من حب الظهور بين الاتراب والتمايز عنهم اكثر مما فيه من جدية التوجه نحو الكتابة، وبالاخص للمسرح، لان ذلك لم يتكرر قط، وعن بيروت السبعينات التي شهدت حصارها الطويل عام 1982 قال امجد ناصر:
«كانت بيروت تمور بكل شيء
لكل قاصد جهة وطريق
برج بابل حقيقي، ألسنة ولغات، اسلحة وقصائد، شرق وغرب، وزن ونثر، مطابع وسيارات مفخخة...
شعرت، هناك، ان خروجي كبير وان سفري سيطول.
الطريق صارت طرقا
الاسماء والخيارات عديدة
عالم كامل مصغر
واصلنا زكريا محمد وأنا صداقتنا وسيلحق بنا غسان زقطان الشاعر الالمع، يومذاك في الاردن، سيثبت زكريا شعريا ويتغير سياسيا فيما سأتغير شعريا وأبقى على خياري السياسي، وعند نقطة معينة سيتقاطع زكريا وغسان عند السياسي والشعري عكس ما كانا عليه في عمان.
سيبدو هذا الافتراق، وهلة، جذريا».
واضاف «لكن الطريق الى لندن لم يكن طريق سفر في القصيدة فحسب، بل صار، ايضا طريقا في الجغرافيا البشرية، في الرحلة يكتشف المرء ذاته كما يكتشف «الآخر» بقدر ما تكون الرحلة مغادرة ل«الفة» «الذات» لملاقاة «الآخر» فهي، كذلك غوص في الذات سفر عمودي فيها.
محاولة استنفاد الفتها الخادعة.
مشيراً الى ان ما كتبه عن الاردن، مثلا، لم يكن اقل اثارة للاسئلة وكشفا لمناطق الظل، مما كتبه عن كندا.
مراوحتي في المكان الاليف عرضت لي وجها منه ولم اتوقف عنده، من قبل، باعتباره مفروغا منه.
وعن حضور لندن في عمله الشعري التالي لما نشره في تسعينات القرن الماضي قال امجد ناصر:
«لندن لن تكون، هنا مجرد مكان رمادي غائم» رغم كونها كذلك في الواقع بل ستظهر باسمها وعلاماتها، لكن هذا الظهور العلني لمدينة كوزموبوليتية تتجاور فيها الاعراق، والسحن، والثقافات بفلكلورها وهوياتها الشقية.. لن يحل لغز المكان حتى ما هو مستنفد منه، ولا لغز الذاكرة ومتاهتها رغم سرودها المستعادة كل حين، ناهيك عن لغز الحياة فالحياة هي لغز الشعر الذي لن يحل».
وختم امجد ناصر شهادته بقراءة عدد من القصائد من اعماله المبكرة ومن قصائده الاخيرة: منديل السهروردي والراديو القديم وفيفا، ثم قام بتوقيع كتابه لعدد من الحضور.
وكان الشاعر ابراهيم نصر الله قد قدم امجد ناصر الى الجمهور بالقول:
بين جملته الاولى في قصيدته الاولى في ديوانه الاول «مديح لمقهى آخر» والجملة الاخيرة في قصيدته الاخيرة في ديوانه الاخير «مرتقى الأنفاس» «زمن طويل، وسنوات ضارية، كم حاولت ان تفصل الشاعر عن شبابه وتسلمه لشيبه..
كما لو ان على الشعراء ان يكونوا اكثر حكمة رغما عنهم.
كانت جملته الاولى في ديوانه الاول تقول:
لن اغتصب ملامحي بدعوى التفاؤل
ولكنني سأنشر الواح صدري للطيور
القادمة من البحر او الصحراء، وأنفث
حزمة من الدخان الحي، وأهدأ
وكانت جملته الاخيرة في ديوانه الاخير تقول:
آه خفّتي
وصل الغريب بلا بارحة او غد
وصل الغريب على آخر نفس
وبين المقطعين زمن لم نكن نعتقد يوما اننا سنقطعه، وقد قطعنا بما يكفي، ووزع احلامنا على رؤوس جبال لم نبالغ حين مدحناها، ولكننا حين دعونا احلامنا لم تأت سعيا الينا.
كما لبى فتات الطير نداء ابينا ذات يوم بعيد، فالشعراء في النهاية بشر، لا انبياء يصل الشاعر الى روحه اخيراً كما يصل الغريب، لكنه لا ينسى ابدا ان يدخر جزءاً من طفولته كي لا يسقط صريع الجهامة.
وهكذا، ورغم ذلك كله، كان على امجد ناصر ان يراوغ قصيدته الاولى، وان يتفلت من وعد قطعه:
أن يهدأ، وأن يراوغ قصيدته الاخيرة وان يظل دائما «على آخر نفس».
كان لا بد من ان يشيخ العالم قبل ان يشيخ الشاعر.
كان لا بد دائما من وجوده ذلك الذي يذكرنا بالصبا، وبالطفولة، وبالقامة العالية، والسباق مع الريح والوقوع في حب الوردة وابنة الجار معا.
ولا يعد الشاعر العالم بالهدأة، ويهدأ، فذلك الطفل سيتفلت دوما من وعوده التي قطعها لأمه، امه التي تدرك بصدى طفولتها البعيدة التي تسكن فيها، ان الحياة بأكملها تسكن خارج الهدأة.
أو لم تكن الأ ذات يوم طفلة
أو لم يكن العالم ذات يوم طفلا
وهل هذا هو السبب الذي تفسر فيه الحياة للحياة عدم انقراض الشعراء
هنا حياة بأكملها، سيرة للروح وفضاء مخبأ في كتاب ام، ام لا تطلب من اولادها الا ان يعيشوا خارج الوصايا، لأنها تدرك ان ظلال طفولتها ماثلة في هذا العصيان النبيل.
نختفي هذا المساء بأمجد ناصر، بسيرة روحه، بهذه الاعمال الشعرية، بتجربته بسنوات الشعر التي ادخرها لنا، كي نكون اكثر شبابا غير عابئين بكوننا الاكثر شيبا بعد قليل.
|