Wednesday 11th September,200210940العددالاربعاء 4 ,رجب 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

مركاز مركاز
شغل الإبداع!
حسين علي حسين

منذ سنوات سألت صديقاً عربياً عن الكتاب الذي يقرأه، فقال لي بجد «إنني أشتغل حاليا على الجريمة والعقاب!!» وقد عجبت حقيقة من وجود شخص يشتغل على القراءة، وكنت أعتقد دوما أن القراءة خيار أو متعة يومية، لا علاقة لها بالشغل، لأن الشغل كما نفهمه، يعني الالتزام والجدية والصبر، على مكاره العمل، لأنه ببساطة لا أحد يحب العمل أو الشغل على الدوام، فليس أمامك خيار الراحة أو التسويف أو تعطيل العمل، فكيف تتلاءم القراءة التي نفر باللجوء إليها من ملل السائد أو المعاش مع هكذا مبدأ أو مبادئ؟
لكنني اكتشف بعد ذلك العديد من الحقائق، فهناك الكاتب الذي يصف بجانبه مجموعة منتقاة من أمهات الروايات، ومنها بطبيعة الحال رائعة الروسي دستوفسكي «الجريمة والعقاب» فهذا الكاتب يقول إنه يتفاءل أو يتبارك بقراءة هذه الأمهات قبل الإقدام على كتابة أي عمل وبالذات إذا كان روائياً، فقراءة هذه «الأمهات» تحرش الدماغ، وتقوي جاهزيته، وتحفز المفردات والصور، وربما تعريها من الروسية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو حتى الألبانية والتركية إلى العربية، هكذا أظن، وإلا لماذا يقرأ الكاتب، كالتلميذ الذي يستذكر دروس العمر كله، قبل الإقدام على أي اختبار جديد، أعني كتابة رواية جديدة، أو ديوان شعر، أو مسرحية أو مجموعة قصصية؟
الكاتب الحقيقي للأسف لا يطيق قراءة كتاب أي كتاب مرة أخرى، إنه يشعر أمامه وكأنه يأكل مرة أخرى من نفس الطعام أو نفس الطبق بعد أن قام من سفرة عامرة بأطايب الطعام، وهو غالبا يفضِّل الأكل في الوقت المحدد، من سفرة جديدة أو طعام مختلف، وهذا الكاتب يذهب إلى الكتابة غالباً دون إعداد مسبق، إنه يكتب ويكتب، ثم يفرز أو يطرز أو ينقي ما كتب، مرة ومرتين وثلاث مرات، حتى يستوي ما كتب على صيغته النهائية!
إن هناك كتَّاباً على مدى العصور، لهم صرعات أو استعدادات معينة لحظة الكتابة، فهناك من لا يستطيع الكتابة إلا في وقت ومكان محددين، وهناك من لا يكتب إلا وهو في كامل قيافته، وهناك من لا يستطيع الكتابة إلا في الأماكن الصاخبة، حيث الناس وحركتهم، وحيث المركبات والإضاءة والضوضاء، وهناك من لا يستطيع الكتابة إلا على موسيقى باخ وتشايكوفسكي وموزار، والأمزجة كثيرة جدا، لكن كافة هذه الاستعدادات تأخذ طابعاً أقرب إلى العفوية، وهي بالتأكيد ليست من نوعية الاشتغال على «الجريمة والعقاب»!
إن الكاتب «الفنان» عبارة عن معصرة، لكافة أنواع الفواكه والنكهات والروائح والحوادث والحقب التاريخية وتحركات الشارع العفوي والمسيس والمدجن والمبرمج، كل هذه الانفعالات أو الحركات أو التحركات، تدخل إلى جوف الكاتب على مدى عمره، وتنزل عصارتها على الدوام في أوقات بعضها محدد أو مبرمج وبعضها عفوي، ولا يوجد كتاب محدد وموضوع بجانب السرير أو المكتب يحركها متى شاء صاحبها، والإبداع عموما يرفض الاشتغال المسبق، فهو غول منفلت بحاجة إلى محايلة ومداورة وملاطفة حتى يطوع ويستوي، كائناً جميلا ومؤثرا وممتعا، قد نطلق عليه رواية أو مسرحية أو قصيدة أو قصة!
إن الاشتغال ضد طبيعة الفنان، إلا إذا كنا نشتغل على شيء لنطبع منه المزيد من النسخ الكربونية، وهذا ما أصبحنا نراه للأسف، فهناك العديد من الشخصيات البديلة أو المقنعة لروايات: المحاكمة، بجماليون، كاليجولا، الصخب والعنف، موبي ديك وغيرها وغيرها ..

فاكس 4533173

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved