تتعدد المعاني والاشتقاقات القاموسية لمفردة «الذهن»، فقد تعني على سبيل المثال «العقل والإدراك» أو «القوة المدركة»، و«ذهن الشيء» بمعنى فهمه وعقله، والذهن «بفتح الفاء» تعني اليقظة والفطنة. فلا عجب إذن أن يشار إلى الحضارات توصيفا بأنها «ذهنيات»، والأعجب بناء على ذلك هو أن الذهنية تلك- الصانعة للحضارة- هي ذاتها مصنوعة، ومن مضامين ذلك أن المجتمع يصنع شروط حضارته بتصنيعه مقومات ما يصنع حضارته ويحقق ريادته تماما كما أن العكس من ذلك صحيح أيضا. عليه فمن الممكن القول إن أزمة العرب الحضارية هي أزمة ذهن لم تحسن صناعته، ومن المعلوم ان المسؤول عن صناعة أو صقل الأذهان، التنشئة الاجتماعية بجميع دوائرها وآلياتها المختلفة.
ما سبق تسطيره ليس إلا تعليقا سابقا على«تعليق» سيرد لاحقا بطله العالم الأمريكي «D.LEMER»، وهو أحد العلماء المرموقين في حقل التحديث والتنمية الحضارية، فقد أجرى هذا العالم العديد من الدراسات التنموية المقارنة في العديد من المجتمعات العربية وتوصل إلى أن الثقافة العربية المعاصرة لا تمتلك القدرة على تزويد أفرادها بما يسمى «الحساسية الديناميكية أو الاستبصار الوجداني Empathy»، وقد قصد بذلك«بتبسيط شديد» عجز هذه الثقافة- من خلال التنشئة الاجتماعية- عن تزويد أفرادها بالقدرة على تسخير خبراتهم الشخصية في سبيل فهم واستكناه أدوار الآخرين بحذاقة وموضوعية وتجرد، ومما يبدو فهو هنا يشير إلى القدرة على«تقمص» أدوار الآخرين بطريقة تعين على فهمهم بموضوعية لا تتطلب بالضرورة الوقوع في شراكهم الثقافي أو الدخول معهم في «جحر الضب» ثقافيا. بمعنى آخر فالفرد العربي- كما يراه هذا العالم- لا يملك فن فهم الآخرين، ولو أراد ذلك فمصيره إما الإعراض أو الوقوع ضحية لتقليدهم الأمر الذي يفسر ما هنالك من ازدواجية مزمنة تتجلى معالمها في المسافات الضاربة أطنابها بين فكر وسلوك هذا الفرد.. أي بين ما يقول ويفعل.
إن الفرد الإنساني كما وصفه ابن خلدون في مقدمته هو «ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته، ومزاجه»، والتمعن بهذه العبارة الوجيزة كفيل بتحبير موسوعات وتسطير ملاحم، فالمزاج والطبيعة مفردتان من مفردات قوام الإنسان البايولوجي/ الجسدي، ومن الثابت أن قدرة الإنسان على التدخل جسديا محدودة قياسا على قدراته«التدخلية» في أمور عوائد النفس ومألوفها، فليس الفرد كائنا بيولوجيا بقدر ما هو كائن «اجتماعي»، والمجتمع هو مصنع العوائد والمألوفات كما أن المجتمع- مثلما اتفقنا آنفا- هو مصنع الأفراد وصائغ الذهنيات.. عليه فسلب أو ايجاب الكينونة الفردية تحددهما نوعية «الذهنية» المصاغة اجتماعيا..
|